كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قدَّمنا في مقالة "السياسة فن الممكن وعلاقتها بقاعدة المصالح والمفاسد (1)": أن السياسة الشرعية وإن كانت قائمة على مراعاة المصالح والمفاسد، وهذا قد يبدو -بصورة من بادئ الرأي- متوافقًا مع قولهم: إن السياسة هي "فن الممكن"، ومِن ثَمَّ قد تشتبه السياسة الشرعية بالسياسة البراجماتية، وقد بيَّنا الفارق الجوهري في وجود منظومة مصالح مبينة ومفصَّلة؛ كما أن الترتيب بينها مقرَّر أيضًا في الشريعة.
ومن هنا يأتي الفارق الجوهري بين السياسة الشرعية والسياسة البراجماتية؛ فضلًا عن السياسة الميكافيلية؛ إلا أن الواقع أن جماعة الإخوان المسلمين وعبر نحو قرن من الزمان قد قدَّمت نوعًا آخر من السياسة يحتاج إلى مراجعة فقهية وسياسية كبرى، وهذه نصيحة صادقة لجماعة الإخوان ولكل الجماعات التي وإن بدت أنها مختلفة معها؛ إلا أنها تشترك معها في بعض الأصول أو السمات، ولعل من أبرزها: المنهج السياسي الذي ستجده عند الإخوان هو بعينه عند السروريين، وهو بعينه عند جماعات الصدام.
ويمكننا أن نصف دورة العمل السياسي عند الإخوان، بل والعمل الدعوي إلى مراحل:
أولًا: في البداية حيث يكون التنظيم ضعيفًا، يطبِّق الإخوان مفهوم المصالح والمفاسد بكثيرٍ من التفريط؛ بحيث يتركون طاعات دون أن تكون معارضة بغيرها؛ بل قد يصل الأمر إلى شنِّ حرب على من لم يترخص معهم!
ومن أمثلة ذلك:
- الترخص بالتهنئة، وربما المشاركة في أعياد المشركين! (راجع تصرفات أحمد الشرع الأخيرة، وهو لم يخلع عنه ثوب المقاتل العسكري القاعدي إلا منذ أيام قليلة، وراجع معها قوله في حديث الجزيرة: إنه يرى أن القاعدة والإخوان منهج عمل واحد).
- مداهنة المشركين والثناء عليهم ثناءً مطلقًا، بل ربما الثناء على تدينهم، أو -على الأقل- الثناء عليهم بما ليس فيهم (راجع ثناء الشيخ القرضاوي -عفا الله عنه- على يوحنا بولس الثاني بأنه رجل خَدَم دينه خدمات جليلة! - وراجع ثناء أحمد الشرع على الرئيس الأمريكي ترامب أنه ينتظر منه إحلال السلام).
- وأشد من ذلك: فتوى الشيخ القرضاوي -عفا الله عنه-: أن المسلم في الجيش الأمريكي يمكنه إذا أُرسِل للحرب في العراق أن يقاتل، ولكن يحرص أن يكون في أواخر الصفوف!
- أما الفتاوى فحدِّث ولا حرج؛ عن النقاب، واللحية، والمعازف، ولعب الشطرنج، وهذه كلها ليست مثلًا اختيارات فقهية نابعة من دليل هنا أو هناك، بل قد يستخرج لها أدلة، نعم، ولكن يكون الاستدلال الأكثر وضوحًا: عدم تنفير الناس والتقرب إليهم... وهذا كله ترك لشيء من الحق دون أن يكون هناك تعارض مع مصلحة أولى تلجؤهم إلى هذا، وهم في هذا كله يرمون مخالفهم بالجمود والتحجر، والجناية على الإسلام بتنفير الناس منه!
وهذا التوجه موجود منذ أيام الأستاذ البنا -رحمه الله-: "وفي الواقع، كل أخطاء الإخوان جذورها موجودة منذ أيام الأستاذ البنا -رحمه الله-، حتى ما نُسِب لاحقًا للأستاذ سيد قطب، وإن كان يمكن أن تعذر الأستاذ البنا؛ لكونه مات في سن صغيرة؛ ولأن العلم في زمنه لم يكن متيسرًا، فالصحوة كانت في مهدها ولم يكن قد تم التوسع في طباعة كتب أهل العلم التي تناولت القضايا التي لا تعالج في كتب الفقه التقليدية بتوسع.
وفي النهاية: فللرجل فضل على العمل الدعوي العام، نسأل الله أن يثيبه عليه، ولكن هذا لا يمنع أن ندرس الأخطاء لنعالجها من الجذور".
وفي حياة الأستاذ البنا -رحمه الله-، أقام الإخوان مؤتمرهم الرابع في قصر عابدين احتفالًا بعيد جلوس الملك على العرش؛ هذا الملك الذي عادوا فخلعوه، ثم لمَّا اختلفوا مع نظام ثورة يوليو، عَدُّوا من عيوبها أنها أزالت الحكم الملكي الدستوري، وأقامت مكانه حكمًا ديكتاتوريًّا!
ثانيًا: عندما تزداد قوة الجماعة شيئًا يسيرًا، يسري إليهم مفهوم ديني خاطئ؛ خلاصته: أنهم بما أنهم يريدون إقامة الإسلام، لا سيما وأن ظروف نشأتهم تلت السقوط الرسمي للخلافة العثمانية، وهم يعتبرون بصورة أو بأخرى أنهم أول من أوجد بديلًا عن سقوط الخلافة. وهذه القضية تحتاج إلى تفنيد تاريخي، ولكن هب أنها مسلَّم لهم بها؛ فهذا لا يخوِّل لهم أن يعتبروا جماعتهم جماعة المسلمين!
وهو رأي صدر من داخل الجماعة، وتبرأت منه الجماعة، ولكن كان من المهم اجتثاث الجذور التي كوَّنت هذا القول عند مَن قال به؛ لا سيما وأن مَن نَفَاه لفظًا اقترب للغاية من إثباته كمعنى؛ فالأستاذ "سعيد حوى" كمثالٍ: ينفي أن الإخوان هي جماعة المسلمين، ولكنه يقرِّر أنها الجماعة الأم!
وستجد في النهاية: كيف تعاملت الجماعة مع مَن ليس معها، بل مَن خالفها مِن أبنائها؟! ولن أمثل بمختارٍ نوح، ولا ثروت الخرباوي، ولكن عبد المنعم أبو الفتوح الذي لَمَّا ترشَّح للرئاسة بدون إذن الجماعة، تسرَّب درس لقيادي إخواني يحلف بالله للأخوات أن أبا الفتوح لو نجح فسوف يقلع الأخوات الحجاب، ويلغي صلاة الفجر.
المهم عندما يحدث شيء من القوة يشعر الإخوان أن معهم وعدًا أكيدًا من الله أن ينصرهم هم بعينهم، وهذا في كل مواجهة يخوضونها؛ بغض النظر عن التوصيف الشرعي للمواجهة (راجع رسالة المؤتمر الخامس للأستاذ البنا، وكيف بعد عام واحد من المؤتمر الذي ابتهج بجلوس الملك على العرش يتهدَّد الملك باستعمال القوة؛ هكذا حتى بدون ذكر أحكام أو ضوابط إلا قوله: إن الإخوان لا تفضِّل هذا الخيار إلا إذا أُجبرت عليه!).
والتهديد بثورة وإن كان قد ذَكَر أنه لا يحبها؛ لكونه لا يعلم نتيجتها، ومَن الذي سيصل إلى الحكم من خلالها.
وفي ظل هذا الشعور تحصل مصادمات لم تُكيف شرعًا: هل هي قتال لمشرك أو دفع صائل، أو هي حرب أهلية، وهرج ومرج! (راجع مصادمات كشافة الإخوان بقوات قسم الأزبكية في حياة الأستاذ حسن البنا - أحداث حماة - أحداث رابعة).
ثالثًا: كثيرًا ما يرغب الطرف الآخر في إيقاف الصراع في منتصفه لسبب أو لآخر، ولكن غالبًا ما يرفض الإخوان كل المحاولات؛ إلا أن يرضخ الطرف الآخر لكل طلباتهم، والطرف الآخر باستثناء وضع حماس مع الكيان الصهيوني يكون رئيسًا وممكَّنًا، بل أحيانًا ما يكون محبوبًا من شعبه، فتقضي على كل محاولات إيقاف النزيف، ولا يستجاب لها إلا مع وقوع المآسي وسقوط الضحايا!
رابعًا: في جوِّ المواجهات يُخْرِج الإخوان من كلام الأستاذ سيد قطب، ويجعلونه هو الأصل مفسرين إياه على أخطر ما يمكن أن يفسَّر به، وقد يُخْرِج بعضهم من كلام الأستاذ البنا ما يفيد ذلك أو يدندن حول إنشاء البنا للتنظيم الخاص، والذي يروي الإخوان له روايتين: رواية عندما يريدون السِّلْم، فيقولون: إن هذا التنظيم كان موجهًا للإنجليز بينما لم يهتم هذا التنظيم إلا باغتيال النقراشي باشا! ويقال: إنه شارك في حريق القاهرة.
والرواية الثانية حينما يريدون العنف؛ فيقولون: الأستاذ البنا قرَّر أن القوة خيار ليس هو أول الاختيارات.
ويلهث مَن ينتسبون للعلم الشرعي في الجماعة، بل من المتعاونين معها؛ فعندما تقرر الجماعة استعمال الرخص -المشروع منها وغير المشروع-، تنطلق الفتاوى؛ لتؤكد سماحة الإسلام، وأن المخالفين متزمتون ضيقو الأفق؛ حنابلة كانوا أو تيميين أو وهابيين، أو نشأوا على فقه البداوة!
ثم عندما تقرِّر الجماعة المواجهة؛ فتنطلق الفتاوى لتنكر مبدأ وجوب مراعاة المصالح والمفاسد مطلقًا، أو -على الأقل- في الواقعة التي هم فيها، أو ترفع شعارات المواجهة والجهاد، وأن المتشكك في انتصار الإخوان في هذا الموقف فهو شاك في قدرة الله.
راجع في ذلك:
- كلام الشيخ محمد حسن الددو في إنكار وجود مراعاة للمصالح والمفاسد في جهاد الدفع (ثم هو نفسه يبارك الهدنة، والتي لو صَحَّ كلامه الأول للزم أن تكون غير مشروعة!).
- كلام دكتور وصفي أبو زيد في الردِّ على دكتور سلمان الداية في شأن قرارات قتالية لحماس.
- كلام الشيخ فوزي السعيد -عفا الله عنه- في أن مَن يشك في عودة الدكتور مرسي؛ فهو يشك في قدرة الله، مع إفتائه الناس أن تحلف على ذلك بالطلاق!
- بعضهم قال هذا على هزيمة منتخب مصر في مباراة بعد 3-7-2013م؛ فأقسم أن المنتخب المصري لو فاز لتشكك في عدالة قضيته!
خامسًا: غالبًا ما لا تستمر المواجهة إلى ما لا نهاية؛ فبعد سقوط ضحايا، وبعد تشوه أفكار أقوام و... يعود الإخوان إلى المربع صفر.
هذه قصة الإخوان، وجماعة الجهاد المصرية، والقاعدة، إلخ، والحل سهل ميسور؛ وهو: ضبط قضية المصالح والمفاسد ضبطًا تأصيليًّا شرعيًّا، وتقبُّل النصيحة في حينها، وعدم تخوين الناصحين للتأكد في كلِّ مرحلة أنهم لا يترخصون بغير رخصة، فيدخلون في موالاة الكفار لإثبات حسن النوايا، والخلط بين البر والإقساط، وبين الولاء والبراء، وغيرها من الأمثلة التي سبق ذكرها، ودراسة مسائل الإيمان والكفر دراسة منضبطة؛ فلم يعد كتاب: "دعاة لا قضاة" يكفي، مع كثرة الشبهات التي تتولد كل يوم، ومع استعارة الإخوان لشبهات كلِّ اتجاهات التكفير في فترات المواجهة؛ بحيث يمكن أن تجد الشخص الواحد يجمع بين بعض فتاوى الغلو التي قال بها بعض علماء الدعوة الوهابية إلى كلام المودودي، وكلام سيد قطب، إلى ما أضفاه منظِّري الجهاد الجدد!
فضلًا أن الجماعة كانت قد حذفت كتاب: "دعاة لا قضاة" من منهج الأُسَر؛ بدعوى أنه ينبغي أن تدرس الأسر رسائل حسن البنا فقط؛ كما يحتاج الأمر إلى دراسة فقه الجهاد وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان أثر قضية المصالح والمفاسد، ومراعاة المآلات في هذين البابين على وجه الخصوص.
وبدون هذا فستبقى سياسة الإخوان: تبدأ شديدة المسالمة، شديدة الترخص، ثم تتنقل فجأة إلى مربع الصدام الذي تغذيه أوهام؛ أنها بعينها معها وعود النصر، ومِن ثَمَّ تستهين بدماء مَن يقدِّمون قربانًا لهذه القرارات؛ لا سيما إذا كان من غيرهم ممَّن تكرس الرسائل الإخوانية نظرة دونية إليهم باعتبار أن إيمانهم دون إيمان الإخوان، بل إن إيمانهم في قلوبهم كالجثة الهامدة على حدِّ وصف الأستاذ البنا -رحمه الله-!
بل حتى لو أدَّت تلك المواجهات إلى سقوط ضحايا من الدائرة شديدة القرب من متخذ القرار فستبقى ثقته في النصر (بناءً على تفسير غير منضبط لوعود الله -تعالى- بنصر الإسلام بصفة عامة) دافعًا للاستمرار!
نسأل الله أن يهدي جميع المسلمين إلى ما يحب ويرضى.