الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 01 فبراير 2025 - 2 شعبان 1446هـ

السياسة فن الممكن.. وعلاقتها بقاعدة المصالح والمفاسد (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالعبارة الأوجز والأشهر في تعريف السياسة باعتبارها ممارسة عَمَلِيَّة؛ هي أنها "فن الممكن".

وقد تعجب إذا علمتَ أن هذا يكاد يتطابق مع تعريف الممارسة السياسية في الفقه الإسلامي، ولكن هذا يُعبَّر عنه في السياسة الشرعية بقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، ووجوب مراعاة المآلات. ولكن مع هذا التشابه الإجمالي الذي قد يصل إلى حدِّ التطابق بين التعبيرين؛ إلا أن الواقع أن البون شاسع بينهما.

وذلك لكون نوع المصالح ورتبها وكيفية الموازنة لتقديم ما حقه التقديم معروفة في الشريعة الإسلامية، وليست راجعة إلى مصالح شخصية، ولا إلى التقدير المطلق لمن يتخذ القرار، وإنما هو اجتهاد في تحقيق المناطات وَفْق قواعد ممهدة ومقررة ومعلومة لكلِّ دارس للشريعة.

ومن هنا يتضح الفرق بين قاعدة المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية الإسلامية والمدرسة البراجماتية التي تُطلِق العنان لمتخذ القرار أن يعيد ترتيب المصالح وَفْق رؤيته، وانطلاقًا من حسابات شخصية أو فئوية، أو حتى جماعية، ولكنها نابعة من مطلق رأي وهوى مَن يتخذ القرار.

وإذا تقرر أن الفرق شاسعٌ بين البراجماتية وبين السياسة الشرعية الإسلامية، فإن الأمر سيكون أظهر في حق الميكافيلية؛ فإن البراجماتية -وإن كانت تتحرر قدر الإمكان من المبادئ- إلا أنها تزعم الالتزام بالأخلاق، فإذا تقرَّر أن السياسة الشرعية مختلفة عن البراجماتية، فمن باب أولى أن تكون أشد اختلافًا مع الميكافيلية التي لا تلتزم بمبادئ شأنها شأن البراجماتية، بل ولا تلتزم بأخلاق أيضًا، فتقرر أن الغاية تبرر الوسيلة.

ولهذا فمن المهم جدًّا استحضار: أن المصالح الشرعية قد استخلصها أهل العلم باستقراء نصوص الشريعة، فوجدوا أنها تعود إلى مقاصد التشريع الخمسة: حفظ الدِّين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، وكل من هذه الخمسة له ثلاث مراتب: ضروري، وحاجي، وتحسيني.

فيحصل أن عندنا خمسة عشر مصلحة من حيث الإجمال، يستطيع الدارس المتمرس للفقه أن يكيفها، وأن يوازن بينها عند التعارض؛ كما أن النصوص قد بيَّنت حالات موازنات، كقصة موسى والخضر -عليهما السلام-، والمرحلة المكية في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصلح الحديبية، وما همَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من مصالحة الأحزاب على ثلث ثمر المدينة، وما أضافه الفقهاء من مسألة الترس، ومن احترقت به السفينة وهو لا يحسن العوم، وغيرها من المسائل التي تُكوِّن الملكة الفقهية، وتُصقل قدرتها على الموازنة.

وكذلك الحالات الخاطئة لإعمال هذه القاعدة، والتي بيَّن الشرع خطأها، كاعتذار مَن اعتذر عن جبنه عن الجهاد بأنه يخشى فتنة نساء بني الأصفر؛ فهي فتنة مظنونة مقدور على مقاومتها، وفي ترك الجهاد بسببها تضييعٌ للدِّين والنفس والعِرض والمال بظهور الكفار على ديار المسلمين، وباعتبار احتمالية القتل أو الجرح سببًا لترك الجهاد حتى في الحالات التي يُرجى معها نصر أو -على الأقل- نكاية في الأعداء، أو اعتبار تقديم التحسينات في حفظ النفس مقدَّمًا على الضروريات في حفظ الدِّين والنفس والعِرض.

وقد رَدَّ الله على من طلب الإذن بترك الجهاد بذريعة خشية الفتنة من نساء بني الأصفر، فقال: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة: 49)، ورد على الآخرين بقوله: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 168).

وردَّ على الفريق الثالث بقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81).

وطالب العلم الفقيه، فضلًا عمَّن سيصدر الفتاوى في النوازل، يجب أن يكون قد تمرَّس على متى يكون رفض القتال نوعًا من التكاسل عن الواجب، ومتى يكون العكس، حتى يقال للمُقدِم عليه كما قال موسى -عليه السلام- للإسرائيلي: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) (القصص: 18).

ومتى يُشدَّد في التحذير من إذعار العدو، ولو بقنص رأسه وزعيمه السياسي والعسكري في آنٍ واحد، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- حذيفة -رضي الله عنه- عن إذعار المشركين في غزوة الأحزاب، ثم كان في موضع يمكنه فيه قتل أبي سفيان -رضي الله عنه- بسهمٍ واحدٍ (وكان آنذاك مشركًا، بل كان قائد قريش الأول سياسيًّا وعسكريًّا).

والقياس هو أشهر أبواب النظر الاجتهادي وأقربه إلى النصوص؛ لكونه عبارة عن إعطاء حكم أصل منصوص عليه لفرع مسكوت عنه بجامع اشتراكهما في علة الحكم.

ومع هذا، اعتراه في التطبيق استعمال القياس في مصادمة النص، والقصور في استنباط العلة في حالة الأحكام غير المنصوص عليها، واستعمال القياس مع عدم ظهور العلة في الفرع كما في الأصل، وغيرها من علل القياس.

وإذا وقعت أخطاء عند تطبيق القياس، فمن باب أولى أن تحدث أخطاء عند تطبيق الأبواب التي تزداد فيها مساحة النظر، مثل العمل بالمصالح والمفاسد.

ولكن يجب على الأمة أن تنصح من يفعل هذا، والله على كل شيء قدير.

وبعد هذه المقالة التمهيدية، سوف نناقش في مقالات قادمة -إن شاء الله- أشهر الأخطاء التي تحدث أثناء تطبيق هذه القاعدة.