كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- من مكارم الأخلاق المنشودة "القناعة": قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم).
- تعريف القناعة: "هي الرضا بما دون الكفاية والاستغناء بالموجود"(1). (مشارق الأنوار لأبي الفضل البستي).
- حاجتنا إلى التذكير بفضل القناعة في زمانٍ صار أكثر الناس يعمل في الدنيا ليل نهار، لا لأجل الكفاية والحاجة، بل لأجل الزيادة والتكاثر: (شواهد: إعدادات الزواج من الرفاهيات - صالات الأفراح - دهانات الحوائط والأرضيات - الأجهزة المنزلية الكثيرة الغالية - الهواتف المحمولة الغالية - الأقساط المتراكمة في التحسينيات عمومًا - إلخ).
(1) فضل القناعة:
- القناعة من الفلاح؛ لأنها توفيق من الله: عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ).
قال المباركفوري: "(كَفَافًا) أي: ما يكف من الحاجات، ويدفع الضرورات. (وَقَنَّعَهُ اللهُ) أي: جعله قانعًا بما آتاه".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) (رواه مسلم). قال ابن حجر: "أي: اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضولٌ تبعث على الترفُّه والتبسُّط في الدنيا".
- القناعة هي الغنى الحقيقي، وفيها راحة النفس والبدن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) (متفق عليه). وروي من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه" (رواه الحاكم، وضعفه الألباني).
- الله يحب الراضي القانع، ويعيب على الشَّرِه الطامع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ)، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. (رواه البخاري). قال ابن حجر: "وفيه إشارةٌ إلى فضل القناعة، وذمِّ الشَّرَهِ".
- القناعة هي الحياة الطيبة التي وعد الله الصالحين في الدنيا: قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97). وعن محمد بن كعب في الحياة الطيبة قال: "هي القناعة". وقال علي بن أبي طالب: "هي القناعة". (ينظر: تفسير ابن كثير).
(2) نماذج من القناعة:
- قناعة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ. قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: (مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟) قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ، وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟) قُلْتُ: بَلَى". (متفق عليه).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: "ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ"، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: "الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا" (متفق عليه). وعن قتادة -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ!" (رواه البخاري).
- قناعة الصحابة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ" (رواه البخاري).
- قناعة رجل من السلف: "كان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل، ويقول: مَن قنع بهذا لم يحتج إلى أحد" (إحياء علوم الدين).
- قناعة رجل من المعاصرين (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي): قال الشيخ عطية سالم: "سمعتُ الشيخَ يقول: لقد جئت معي من البلاد -شنقيط- بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة، وأخشى عليه الضياع. فقلت له: وما هو؟ قال: القناعة". وكان شعاره في ذلك قول الشاعر:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
(3) الأسباب المعينة على اكتساب القناعة:
1- الإيمان الجازم بأن الله -تعالى- كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
2- الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها: قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32).
3- أن ينظر الإنسان إلى مَن هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) (رواه مسلم).
4- تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67).
5- تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء، وأنه سيخرج منها بغير شيء من متاعها: فعن أنس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال: (يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ) (رواه مسلم).
وصدق الشاعر الذي قال:
هـي الـقنـاعةُ لا تـرضـَى بها بـدلًا فـيهـا النعيمُ وفـيهـا راحـةُ الـبـدنِ
انـظـرْ لـمن مـلَك الدُّنيا بأجـمـعِـها هل راح منها بغير القطن والكفن
فاللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم قنِّعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مثال للتوضيح: إذا كان الإنسان يحتاج لكفايته عشرة، ولكن لا يملك إلا خمسة، فالقناعة هي الرضا بها والاستغناء بها عن الناس. وأما غير القانع فهو يريد الفارق بطريق من ثلاث: الأول: طريق الحرام (السرقة - الرشوة - الغش -...). والثاني: طريق الحلال، ولكنه على حساب حق ربه، وربما حقوق أخرى، فيعمل ليل نهار "حمار بالنهار، جيفة بالليل". الثالث: بين الطريقين، وهو سؤال الناس والتذلل لهم.
نسأل الله أن يرزقنا القناعة بما رزقنا.
وبالجملة: القناعة شفاء ودواء؛ شفاء من داء الجشع والطمع، شفاء من الهموم والأحزان، شفاء من الكراهية والحسد، شفاء من نهب الأموال والاعتداء على الممتلكات. فمَن عُدِم القناعة لا يُرضيه طعام يُشبعه، ولا لباس يواريه، ولا مركب يحمله، ولا مسكن يؤويه؛ ولن يملأ جوفه إلا التراب. قال عبد الله بن عباس: "القناعة مال لا نفاد له"، ورحم الله أيامًا كان الناس يكتبون على بيوتهم ودكاكينهم: "القناعة كنز لا يفنى".