كتبه/ إسلام صبري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أكثر ما يضر العمل الإسلامي عامة؛ من: دعوة، وتعليم، وجهاد في سبيل الله، وبناء التصورات عن الأحداث الواقعية المختلفة، واتخاذ المواقف التي يراها متخذوها مناسبة لتلك الوقائع، وغير ذلك من مجالات العمل لدين الله -عز وجل-؛ هو الجهل بالأحكام الشرعية.
والأحكام الشرعية والعلم بها، وتنزيلها على الوقائع المختلفة، ومِن ثَمَّ اتخاذ الموقف المناسب، والقرار الأقرب للصواب حسب اجتهاد متخذيه؛ ذلك هو وظيفة العلماء الراسخين في العلم، والذين يجب على طلبة العلم -فضلًا عن عوام المسلمين- اتباعهم في ذلك، والصدور عن رأيهم؛ قال الله -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، وقال -عز وجل-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء: 83).
والذين يستنبطون حكم الله -عز وجل لما يحلُّ بالمسلمين من أمور، هم العلماء، وأمور المسلمين لا تخلو من أن تكون أمرَ أمنٍ، أو أمرَ خوفٍ، وفي كلاهما يجب الرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم.
قال الجويني -رحمه الله- في غياث الأمم: "فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء؛ وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم"؛ فهذا هو الحق على الخلائق؛ وهو: الرجوع إلى العلماء، بل حتى مع وجود ولي الأمر الشرعي يجب الرجوع إلى العلماء، فيجب عليه -ولي الأمر- بلا خلاف استشارة العلماء.
قال ابن عطية -رحمه الله-: "والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه" (تفسير القرطبي).
إذا تبيَّن هذا ظهر لك بوضوح أحد أسباب الخلل في فهم الأحكام الشرعية وتنزيلها على الواقع، وهو عدم الرجوع إلى العلماء، واستهواء البعض ضرب الأمثال، ويجعل تلك الأمثال المضروبة بلا علم ولا تأصيل، مرجعًا في تشكيل وعي قطاعات عريضة من المسلمين، وهذه في الحقيقة جناية عظيمة في حق العلم الشرعي والدين، وجناية على أولئك المسلمين الذين يسيرون خلف هذه الأمثال التي تُضرَب وتقال بلا علم، ولا تأصيل للأحكام الشرعية التي يريدون للأمثال أن تحل مكانها!
ومن أمثلة ذلك قول البعض: (أكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض!)، وهو مثال يُضرب لقصد التجميع والتوحد بغض النظر عن الخلاف؛ فيُنزِّل البعضُ هذا المثال في غير موضعه -بلا تأصيل للأحكام الشرعية، ولا إدراك للأحداث الواقعية- على كل من يخالف رأيه وهواه، وعلى كل من لم يرضَ بطريقته في صدام غير متكافئ، ولا محسوب العواقب، بل محسوم النتائج لصالح الطرف المقابل، ويكون من سعى لحفظ الأنفس وحقن الدماء وحفظ الأوطان، وحراسة المنهج في نظر أولئك الضرَّابين للأمثال بجهل وبظلم قد قصروا أو أهملوا، وما ذاك إلا لما يمتلكون من قدرة على التشغيب على أهل الحق، والتلبيس على عامة الناس بضرب الأمثال في غير موضعها.
والحقيقة هي: أن من لم يستمع لنصح الناصحين، ولا لتحذير المخلصين هو مَن أودى بنفسه وأتباعه إلى المحرقة وألجأهم إلى المهلكة بلا مصلحة ولا منفعة، ثم ذهب يضرب الأمثال للتشنيع على مخالفيه لسهولة التلبيس بالمثل على من لا خبرة له ولا علم دقيق تفصيلي بالحدث.
والأمثلة على مثل هذا تطول، ولكن نختم بمثال يناسب هذه الأيام: (يقول بعضهم: لا يحسن بالعجوز الشمطاء أن تتفاخر يومًا بجمالها؛ فكذلك لا يحسن الافتخار بالنصر في وقت الهزيمة!)؛ أرأيتَ -أخي القارئ- كيف يأخذ المثلُ العقلَ أخذًا إلى المنطقة التي يريد المتحدث أخذه إليها، وكيف يغطي على تفكير المرء، وقد يجعله عاجزًا عن المناقشة والرد، وقد يتوهم أن ذلك حق وصدق، وما الأمر إلا ضرب مثل لا يتطابق مع الواقع وإن كان يشبهه من وجهٍ ما فلا يستطيع من لا يمكنه التمييز من ردِّ المثل ولا من تفصيل الكلام، وكلما تكررت عليه الأمثال الموجِّهة لتفكيره لفكرة ما اقتنع بذلك وزاد عجزه عن التفسير، وقل علمه، وانغلق عقله، وأشرب الباطل هواه!
- العجوز الشمطاء لم تفعل شيئًا وقت شبابها لتحصل الجمال، بل هو رزق رزقها الله إياها، والنصر القديم أو الحديث -وهو رزق من الله أيضًا- لا يأتي إلا بعد كبير بذل وعظيم عطاء، وتحمل للمشاق وتخطي الصعاب، فشتان بين الثرى والثريا، وبين مَن يفتخر بما ليس بموضع للفخر وبين من يتذكر نعمة الله بنصرٍ قد بُذل فيه الغالي والرخيص مستلهمًا بذلك أجواء ذلك النصر مذكِّرًا للأمة به لعل الله يبعثها من جديد!
- ?العجوز الشمطاء لا يمكنها العودة لجمالها مهما صنعت، والمفتخرون بأمجاد أمتهم القديمة والمعاصرة يمكنهم العودة لمثلها أو قريبًا منها أو حتى لما هو أعظم من بعض ما سبق إذا ما تذكروا دائمًا أنهم قدروا على ذلك؛ مما يعني أنهم قادرون عليها مرة أخرى إذا ما أخذوا بأسباب ذلك.
ولسنا في حاجة في كل مثل يلقيه مشغب -بلا تأصيل للأحكام وعدم قدرته على وصف الأفعال بـ(حلال وحرام)- أن نأتي ونفكك أمثاله الواهية، ونبين زيف تنزيله لها على واقع معين، لكن لكثرة أولئك المشغبين، وانتشار الجهل بآثار الرسالة، وتهيؤ قلوب العامة لتشرُّب تلك الشبهات، احتجنا لذلك بين الحين والحين.
والمقصود هو: عدم ترك عقلك لأمثالٍ لا تأصيل معها، وعدم إهمال قلبك بتركه عرضةً لتلك الشبهات، وأن تتسلح بالعلم النافع وبالرجوع للعلماء.