نصائح وضوابط إصلاحية (16)
كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زال حديثنا موصولًا حول صحة المنهج الذي يتبناه الكيان الإصلاحي أو المؤسسة (الأيدلوجية)؛ إذ يعد الانضباط الفكري والعقدي عند الكيانات أحد أعظم عوامل صلاحها ونجاحها الإصلاحي، وبالعكس؛ فأي انحراف فكري أو عقدي يعد من أعظم أسباب ضياع الكيانات وتشتتها وفشلها في الدنيا، واستحقاقها للوعيد ودخول النار في الآخرة، بل يعد هذا المرتكز ركنًا رئيسًا في الحكم على أي كيان كونه إصلاحيًّا أم لا -مهما بُذل من جهد في استكمال باقي المرتكزات-.
وليس أوضح من ذلك مما نبَّه عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر الخوارج حين قال في وصفهم: (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ الرَّامِي فِي الْنَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ هَلْ عَلِقَ بِهِ مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ) (متفق عليه)، وما هذا إلا بسبب الخلل الحادث في البناء الفكري والعقدي لهم، والذي جرأهم على تكفير أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لذلك فإننا نجد أن الله -عز وجل- قد نبَّه على ضرورة انضباط أي تجمع بالضابط الفكري والعقدي؛ كما جاء في سورة أل عمران -قبل أن يأمر بإيجاد الطائفة من المسلمين التي تقوم بواجب الإصلاح من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104) -كما تقدم-؛ فقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103)، أي: تمسكوا بدين الله وَكتابه؛ كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وقال أيضًا -عز وجل- بعد ذات الآية في سورة آل عمران: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران: 105-107). أي: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة؛ قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: "وَقَوْلُهُ: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ -قَبْلُ-: (وَلا تَفَرَّقُوا)؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ التَّفَرُّقِ فِي أَبْشَعِ صُوَرِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَدَيْهِمْ من مطالعة أَحْوَال الْيَهُودِ... وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِافْتِرَاقِ؛ وَهُوَ: الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ الْأُمَّةِ بَعْضًا، أَوْ تَفْسِيقِهِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فِي الْأَقْطَارِ والإعصار، وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَنَحْنُ إِذَا تَقَصَّيْنَا تَارِيخَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا نَجِدُ افْتِرَاقًا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأُصُولِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ" (التحرير والتنوير).
لذلك فمن أخطر ما قد يتسبب في انحراف الكيانات الإصلاحية منهجيًّا، المداهنة في الأمور العقدية تحت مزاعم: (النظام العالمي الجديد، والتعايش، وقبول الآخر، والتنوير- إلخ)؛ فقد حذَّر الله -عز وجل- من ذلك.
ونكمل الحديث عن ذلك في المقال القادم -بإذن الله-.