الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (14)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنُكمِلُ حكايةَ محمود شاكر مع أستاذِه أحمد تيمور باشا، والتي ضمَّنَها هُجُومَه المُدِّمِرَ على الاستشراقِ والمستشرقينَ، بكلماتٍ صدرت عن رَجُلٍ نذر حياتَه لِلدِّفاعِ عن الحقِّ، وتنَفَّس به العُمرُ في ميدانِ الجهادِ، وتمَرَّس بشدائدِ الحياةِ، واستَعذَب الآلامَ في سبيلِ تحقيقِ رسالتِه، ورَاضَ نَفْسَه على أدبِ اللِّسانِ والقلم.
قال -رحمه الله-: "ثمّ بعد أيامٍ لَقِيتُ أحمد تيمور باشا، وأعدتُ إليه المَجَلَّةَ، فسألني: ماذا رأيتَ؟ قلتُ: رأيتُ أعجميًّا باردًا شديدَ البُرُودَةِ، لا يَستحِي كعادتِه! فابتسَمَ وتلألأتْ عيناه، فقلتُ له: أنا بلا شَكٍّ أعرفُ مِن الإنجليزيَّةِ فوق ما يَعرِفُه هذا الأعجَمُ مِن العربيَّةِ أضعافًا مُضاعَفةً، بل فوق ما يُمكِنُ أن يَعرِفَه منها إلى أن يَبلُغَ أرذَلَ العُمرِ، وأستطيعُ أن أتَلعَّبَ بنشأةِ الشِّعرِ الإنجليزيِّ منذ شوسر إلى يَومِنا هذا تَلعُّبًا هو أفضلُ في العقلِ مِن كُلِّ ما يَدخُلُ في طاقتِه أن يكتبَه عن الشِّعرِ العربيِّ، ولكن ليس عندي مِن وقاحةِ التَّهَجُّمِ وصَفاقةِ الوجهِ ما يُسوِّلُ لي أن أَخُطَّ حرفًا واحدًا عن نشأةِ الشِّعرِ الإنجليزيِّ؛ ولكن صُرُوفُ الدَّهْرِ التي تَرفَعُ قومًا وتَخفِضُ آخَرينَ، قد أنزلتْ بنا وبِلُغَتِنا وبِأدَبِنا ما يُتِيحُ لِمِثْلِ هذا المسكينِ وأشباهِه مِن المُستَشرقِينَ أن يَتكلَّموا في شِعْرِنَا وأدبِنا وتاريخِنا ودِينِنا، وأن يَجِدُوا فينا مَن يَستمِعُ إليهم، وأن يَجِدُوا أيضًا مَن يَختارُهُم أعضاءً في بعضِ مَجامعِ اللُّغةِ العربيَّةِ! وأَغْضَى أحمد تيمور وهو يَبتسِم.
ومرَّت الأيامُ وغَاصَ كلامُ هذا الأعجميِّ في لُجَجِ النِّسيانِ، لأنّ هذا الأعجَمَ وأشباهَه يَدرُسُونَ آدابَنا وشِعْرَنا وتاريخَنا كأنّه نَقْشٌ على مَقبرةٍ عاديةٍ قديمةٍ، مكتوبٌ بِلُغَةٍ ماتت ومات أهلُها وطَمَرَها ترابُ القُرُون! والأسبابُ الدَّاعيةُ لهم إلى ركوبِ هذا المنهجِ كثيرةٌ، أهونُها شأنًا: الأهواءُ والضَّغَائِنُ المُتوارَثة، ولكن أوغلُها أثرًا: أنّ تَوجُّهَهُم إلى هذا المَسلكِ -مَسلكِ الاستشراقِ-؛ هو: أنّ جَمهَرتَهم غيرُ قادرةٍ أصلًا على تَذوُّقِ الآدابِ تَذوُّقًا يَجعلُها حَيَّةً في نُفُوسِهم قبل أن يَكتُبوا.
وهم أيضًا مَسلُوبُو القُدرةِ على أن يَبلُغُوا في لسانِهم الذي ارتضَعُوه مع لِبانِ أُمَّهاتِهم مَبلغًا مِن التَّذوُّقِ، يُعِينُهم على التَّعبيرِ عنه تعبيرًا يُتِيحُ لِأحدِهم أن يَكُونَ له شأنٌ يُذكَرُ في آدابِ لسانِه؛ ولهذا العَجزِ آثَرُوا أن يَكُونَ لهم ذِكْرٌ بالكتابةِ في شأنِ لُغاتٍ أخرى يَجهلُها أقوامُهم، وهذا الجهلُ يَستُرُ عوراتِهم عند مَن يقرأ ما يَكتُبون مِن بني جِلْدَتِهم.
ولأنِّي خبرتُ ذلك فيما يَكتُبونَ، وفيما يَقولُونَه بألسنتِهم، لَم يَكُنْ لِمِثْلِ هذه الآراءِ في الشِّعْرِ الجاهليِّ وغَيْرِه وَقْعٌ في نَفْسِي يُثِيرُني، اللهمّ إلا ما يُثِيرُ تَقَزُّزِي، فما أَسرعَ ما أُسقِطُ ما أَقرأُ مِن كلامِهم جُملةً واحدةً في يَمِّ النِّسيان" (انتهى).
واللهُ المُستعانُ، وبِهِ التَّوفِيق.