كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة الثامنة:
قوله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) دَلَّ على أن الشكر صفة خاصة النبيين كما وصف الله -عز وجل- نوحًا بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له في كثرة قيامة حتى تتشقق قدماه وقد غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، فالشكر حياة القلب وأساس العبادة؛ قال الله -تعالى-: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: 114).
أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأن نشكر نعمته؛ فإنما رزقنا لنشكره، وهذا من حكمة الله أن خلقنا في حاجه وأعطانا ما نسد به حاجتنا، وجعل ذلك سبيلًا إلى ما هو أعظم من تلك الحاجات.
فحاجتنا إلى شكر نعمة الله أعظم من حاجتنا إلى الهواء والطعام والشراب، ونحن والله لا نحصي ثناءً على الله؛ فكل نَفَس، وكل طعام وشراب نعمة من الله عظيمة، وشكرك نعمة الله عليك، نعمة أعظم؛ فأنت تحتاج إلى ذلك لصلاح قلبك، وحياة قلبك أعظم من حاجتك إلى الهواء والطعام والشراب.
فالشكر سبب حياة القلب؛ فلو مُنِع من البدن الهواء يموت، فكذلك لو منع من القلب الشكر يموت القلب، وأنت محتاج إلى حياة قلبك أعظم من حياة بدنك، وفي الأثر الإسرائيلي: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر؟ فقال: يا داود الآن شكرتني!".
جعل الله -عز وجل- النعم ليأخذ بها قلوبنا إلى ما هو أهم، وليأخذ قلوبنا إلى نعمة أتم؛ وهي: أن نشكره على نعمته فيعطينا المزيد؛ لأن الله -عز وجل- قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).
وما أنعم الله -عز وجل- به علينا من شكره هو نعمة جديدة؛ فإذا شهدنا ذلك شعرنا أننا لا نحصي ثناءً على الله، ويشعر العبد بعجزة عن إحصاء نعم الله وثنائه على الله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم لك الحمد كما تقول، وخيرًا مما نقول"، وقال الله -سبحانه وتعالى- في بيان نعمة النبوة والرسالة والدِّين على البشر: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144).
وقد يتعجب المرء من ذكر الشكر في مقام موت النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قتله، وإنما يحتاج الناس إلى الصبر؛ فهو ابتلاء عظيم، ومقام نزول أعظم مصيبة بالمسلمين إذا مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبادة الله هو أعظم نعمة، والمحافظة عليها والاستمرار عليها هو شكر هذه النعمة بالثبات عليها؛ ولذا ذكر الله -عز وجل- في هذا المقام عبادة الشكر؛ لأنها أساس العبادة.
ولذا قال أبو بكر -رضي الله تعالى- عنه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب الله وأثنى عليه ثم قال: "مَن كان يعبد محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)".
فمن انقلب على عقبيه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كفر هذه النعمة ولم يشكرها، ولم يكن محقًّا في اتباعه لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا المقام مقامٌ فيه صبر وشكر معًا؛ شكر نعمة الله بالدِّين، وشكر نعمة الله بالرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164)، وأن نوحِّد الله في كل وقت وفي كل حال، ونثبت على عبادة الله؛ سواء أوجدنا من يعيننا أم لم نجد، وسواء أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أم قد مات ورحل عن هذه الدنيا.
وشكر نعمة الله -عز وجل-، يستجلب للعبد رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وهذا أعظم نعيم يحصله أهل الجنة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) (رواه مسلم).
فالله -تعالى- جعل الأرزاق سببًا للشكر، والله يرضى باليسير من العمل بأن يقول العبد بعد أن يأكل: "الحمد لله"، وإذا شرب الشربة أن يقول: "الحمد لله".
فليتأمل الإنسان كيف وصلت له هذه الشربة؟ وكيف نزلت من السماء في وقت نحن لا نعلمه؛ فلنتفكر في قطرات الماء التي نشربها: من أين أتت؟ وفي أي يوم من الأيام نزلت من السماء؟ ومتى تخلَّقَت؟ الله -عز وجل- وحده يعلم؛ تخلقت في وقت معين ثم نزلت من السماء في وقت معين، ثم سارت مسافات طويلة، ثم احتجزت مدة عند العوائق والغابات والسدود، ثم بعد ذلك سارت مدة واحتجزت إلى أن وصلت إلينا عبر مراحل كثيرة، ثم وصلت إلى هذا الصنبور، ثم فُرِّغت في الكوب ثم شربناه، فماذا فعلنا نحن في هذا كله؟!
وكل ما فعلناه نحن في هذه المراحل هو الخطوة الأخيرة؛ وهي: شرب هذا الماء؛ أما ما كان قبل ذلك فليس من تصرفنا، وكذا لو كان هذا الماء نابعًا من عيون الأرض فإنه أيضًا نزل من السماء، ثم بقي في الأرض آلاف السنين إلى أن أخرج من هذه العيون وجاء إلينا في هذه الزجاجات؛ قال الله -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 68-70).
فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودَّع، ولا مستغنٍ عنه ربنا.