الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (10)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ركب الأستاذُ محمود الباخِرةَ مسافرًا إلى الحجاز في نهايات سنة 1927م، بعد أن ترك الجامعةَ مباشرةً، باحثًا عن الحقيقة؛ فقد كان يسعى -كما كان يقول- إلى تحقيق شيئَين: الأوَّل: تحقيق نقاء عقيدته في داخله، والثَّاني: تحقيق عُرُوبته في داخله.
فنزل في مدينة جُدَّة، لِعلاقتِه بالشَّيخ محمد نصيف (1885 - 1971م)، وهو أحد أعيان مدينة جُدَّة، وكان له علاقةٌ طيِّبةٌ بوالدِه الشَّيخ محمد شاكر أيضًا.
ثم شَدَّ الرِّحالَ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، وقضى عُمرتَه، ثم عاد إلى جُدَّة بعد أيام، وبعد ما عاد مِن العُمرةِ تلقّى أَوَّلَ رسالةٍ مِن أبيه، يقول له في آخرها: (زارني في عصر اليوم الذي سافرتَ فيه إلى السويس الأستاذُ نلِّينو والدُّكتور طه حسين)، ولَم يزد والدُه على هذه الكلماتِ شيئًا، وختم رسالتَه، وعاش هناك عامَين، وأُنْشِئَتْ مدرسةُ "جُدَّة السُّعودية الابتدائية"، فعَمِلَ مُديرًا لِلْمدرسةِ، وكان يحاول أن يُعِيدَ نَمَطَ التَّعليمِ كما يَراهُ هو -رحمه الله-.
يَقُولُ الأستاذُ محمود عن هذه الرِّحلةِ: (لمّا فتح ابنُ سعود شمالَ الجزيرةِ العربيَّةِ كنتُ أَظُنُّ في ذلك الوقتِ أنّه بدأ تحقيقُ شيءٍ عظيمٍ من أحلامي؛ وهو: نهضة العربية نهضة كاملة، ونهضة العقيدة الصَّحيحة المبنية على ترك الوثنيات وما إليها، الدَّاخلة علينا، على أصحاب هذا الدِّين؛ فانبعثتُ بكُلِّ قُواي للخروج من مِصر، مع شُعُوري بالقلق في الجامعة، لِخلافي مع د. طه، مع فَضْلِ رَجُلٍ عظيمٍ عليَّ وهو مُحِبُّ الدِّين الخطيب (1886 - 1969م)، ورَجُلٍ آخَرَ وهو أحمد تيمور باشا (1871 - 1930م)، الذي سدَّد خُطاي في كل ما كنتُ قَلِقًا إليه في ذلك الوقت.
فاتَّجهتُ اتِّجاهًا كاملًا لِأَنْ أعملَ عملًا جديدًا، وهذا بالطَّبع ثورةٌ مِن ثوراتِ الشَّبابِ، فخرجتُ مُهَاجِرًا، لا مُسَافِرًا ولا مُرْتَزِقًا، حيث إنّ جزيرةَ العربِ لَم تَكُنْ في ذلك الوقتِ مَصْدَرًا لِلْمال، بل كانت مَصْدَرًا لِلْبُؤْس، حتى إنّه في مَرَّةٍ بَقِيتُ تسعةَ أَشْهُرٍ لَم أَقْبِضْ فيها مُرَتَّبًا، وإنّما كان يأتيني مِن أبِي ما أستطيعُ أن أعيشَ به. ومع ذلك فالنّاسُ أكرموني هناك أَشَدَّ الإكرامِ، وخاصَّة السيد محمد نَصِيف، وهو رَجُلٌ مِن عُظَمَاءِ هذه الأُمَّةِ، وعنده مكتبةٌ لا مثيلَ لها في العالَمِ العربيّ) (انتهى).
ثم ألمَّت بأهلِه في مِصرَ مُلِمَّةٌ، وهي مرضُ أختِه صفية، وبدأ يَتلقّى رجاءَ الأهلِ والأساتذةِ بالعودةِ إلى مِصرَ، فرجع إلى مِصر.
وباللهِ التَّوفيق.