الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 06 أغسطس 2024 - 2 صفر 1446هـ

إبراهيم عيسى محامي الزنادقة (3) ابن المقفع (ت: 142 هـ)

كتبه/ شحات رجب البقوشي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زال إبراهيم عيسى يجتَرُّ كلام المستشرقين في دفاعهم عمَّن عُرِفوا بالزندقة، وكأنَّ الأمة قد خلا تاريخُها من الأعلام المعروفين بحسن الاعتقاد والتقوى، والورع والصلاح؛ إلَّا أن عرضَ تراجم هؤلاء الزنادقةِ في سياق الدفاع عنهم، والمدح فيهم، يدفع إلى تحقيق أهداف تكوين المشبوهة.

بدأ إبراهيم عيسى بنقل ما ذكرَته كتبُ التراجم في ترجمة ابن المقفَّع من اهتمامه بترجمة كتب الأدب الفارسي الهندي إلى العربية، وإسهاماته الأدبية المشهود بجودتها.

ثم بدأ بسرد ما يسمِّيه محنة ابن المقفع بسؤال: "هل يحاسب المرء على أفكاره وآرائه؟"، ثم أجاب بما يفيد أن الإنسان حرٌّ فيما يعتقد ويفكر، وليس لأحدٍ أن يحاسبَ أحدًا على فكره، وفي هذا الكلام تناقضٌ كبيرٌ مع ما قاله إسلام البحيري -رفيقه التكويني- في أكثر من لقاء له؛ كان آخرهم في (بودكاست) مع فاطمة ناعوت، حيث طالب بفرض التنوير بالقوة! وبقرار الأنظمة، وضرورة إجبار الشعوب على تغيير الفكر!

وهنا يظهر المنهجية المزدوجة لتكوين، فإذا كان صاحب الفكر يتَّجه ناحية الزندقة فيطالبون بعدم الحَجر عليه، بل والدفاع عمَّن مات منهم منذ قرون، أما إذا اتَّجه الفكر ناحية التدين فيطالبون بفرض التنوير عليه بالقوة.

ابن المقفع في كتب التراجم:

هو عبد الله بن المُقَفَّع، وكان اسمه داذَوِيه من أهل فارس، كان مجوسيًّا فأسلم، والحقيقة أن كتب التراجم أنصفت ابن المقفع إنصافًا واضحًا؛ فقد ذكروا له ترجمته كتب أرسطاليس في المنطق، وكتاب "كليلة ودمنة"، وشهدوا له بالفصاحة والكرم، وذكروا أمثلة لجيِّد كلامه، وقد نقلوا عن الأصمعيِّ أنه قال: صنف ابن المقفع "الدرة اليتيمة" التي لم يصنف مثلها في فنها. (ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي).

وفي نفس الكتب التي مدحت إسهاماته الأدبية، ذكرت أيضًا بعض ملامح الزندقة التي ظهرت عليه، ومن ذلك: أن ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" (3/ 968) ذكر أن ابن المقفع كان إذا مرَّ على بيت النار في بلاد فارس -وقد كان مقدَّسًا عند المجوس-، أنشد شعرًا في الثناء عليه حتى اتُّهم بالمجوسية، ومن شعره في بيت النار:

إنـي لأمـنَحُـكَ الصُّدودَ وإنني                  قسمًا إليكَ مع الصُّدود لأَمْيَلُ

وإذا كان ابن المقفع قد مُدِح بسبب ما قام به من ترجمة، فإن نوعية الكتب التي ترجمها تُعدُّ قرينة على زندقته؛ لم يقل بهذا رجال الدين ولا العلماء من المسلمين فحسب، بل أثارت شكوك المستشرقين أنفسهم، فإن (جوزف فان آس) (ت: 2021م) بعد ما عرض اتهام ابن المقفع بالزندقة في كتابه: "علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة" (2/51) قال: "لا ينبغي لنا هنا الطعن في هذه الأخبار كلية، فلو افترضنا أن نصوص الزندقة هذه؛ قد تم نقلها إلى العربية تحت إشراف ابن المقفع، فنحن إذًا لا نفتقر إلا إلى معرفة قصد هؤلاء الذين قاموا بالتكليف من أجل القيام بها".

فيربط المستشرق هنا بين اتهامه بالزندقة والكتب التي ترجمها، حتى قال المهدي: "ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع!".

وأضيفت إلى تهمة الزندقة سوء خلقه، وطيشه؛ قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (6/ 209): "وكان ابن المقفع مع سعة فضله، وفرط ذكائه، فيه طيش، فكان يقول عن سفيان المهلبي -عامل بني أمية على البصرة-: ابن المغتلمة!"، وكان يقذف أمه، بأشد العبارات، ويسخر من كِبر حجم أنف سفيان.

ثم لمَّا قامت الفتنة بين المنصور (ت: 158هـ)، وعمِّه على الخلافة، وقف ضد المنصور، وصاغ كتاب العهد بنفسه، ووضع فيه عبارات أغضبت المنصور فكلَّم سفيان في قتله، فوافق ذلك رغبة عند سفيان؛ لسوء خلقه معه من ناحية، ولتهمةِ الزندقة التي باتت لصيقة بابن المقفع من ناحية أخرى، فقُتل.

أمَّا عن قتل ابن المقفع: فقد تناول إبراهيم عيسى إحدى روايات قتله وهي الأكثر بشاعة، إذ تحكي أنه قطعت أطراف ابن المقفع، وألقيت في تنور تحترق أمامه ثم ألقي هو في التنور، ويبدو أن اختيار إبراهيم عيسى لهذه الرواية دون غيرها من الروايات المذكورة في ترجمته ليس عن اجتهادٍ منه؛ إنما لأنها تخدم أهدافه من تشويه التاريخ الإسلامي، كما اختار من قبل رواية مقتل بشار بن برد، رغم تعدد الروايات فيهما.

والذي يرد على إبراهيم عيسى في هذا الموضع، المستشرقُ (جوزف فان آس) في كتابه سالف الذكر (2/47)، حيث يقول: "ليس من اللازم الاستغراق أكثر في التحدث عن هذه القضية، ليس رغبة في الاختصار فحسب، وإنما بسبب قصور المصادر، فالروايات التي تحكي عن ابن المقفع بها طابع السرد غير الموثق، مثلها في ذلك مثل الروايات الواردة عن بشار بن برد، فنجد الروايات التي تصف طريقة قتله تتمعن في رسم صورة خيالية عن الوحشية التي تم عليها القتل، فيُروى -مثلًا- أنه ألقي به في إحدى الأفران... في الواقع ليس لدينا الكثير مما نعلمه عن هذا الموضوع، فهناك -مثلًا- رواية تحكي أن ابن المقفع مُنِح مهلةً لكي ينتحر، وكذلك فإن هناك رواياتٍ عديدةٌ عن سببِ موتِه. فتفاصيل حياة ابن المقفع وشخصيته يكتنفها العديد من الألغاز، لذلك يبيت من الحصافة تفنيد القضايا بدلًا من افتراض استنتاجات قاطعة".

فليت دعاة التنوير لما أخذوا من المستشرقين تعلموا منهم قدرًا من الحصافة، كما تعلموا منهم معاداة الدِّين.