كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُواصِلُ الأستاذُ محمود شاكر حكايتَه بقلمِه، وأَوَّلُ ما يَرُوعُكَ منه لفظُه المُونِقُ، وأسلوبُه المُشْرِقُ، الذي تَضِيقُ عن معانيه ألفاظُه كما تَضِيقُ شُطئانُ الرَّمْلِ عن الفيضانِ الجائشِ المُزْبِد.
فقال -رحمه الله-: "فالدُّكتور "طه" أستاذي، وله عليَّ حَقُّ الهيبة؛ هذا أدبُنا. ولِلدُّكتور "طه" عليَّ يدٌ لا أنساها، كان مُديرُ الجامعةِ يومئذٍ "أحمد لطفي السيد" يرى أنّ لا حَقَّ لحامل "بكالوريا" القسم العلمي في الالتحاق بالكُلِّيّات الأدبية، مُلتزمًا في ذلك بظاهر الألفاظ! فاستطاع الدُّكتور "طه" أن يحطم هذا العائقَ بشهادتِه لي، وبإصرِاره أيضًا، فدخلتُ يومئذٍ بفضلِه كُلِّيَّةَ الآدابِ، قسم اللغة العربية، وحِفْظُ الجميلِ أدبٌ لا ينبغي التَّهاونُ فيه.
وأيضًا، فقد كنتُ في السابعة عشرة من عمري، والدُّكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتَوْقِيرُ السِّنِّ أدبٌ ارْتَضَعْنَاهُ مع لِبَانِ الطُّفُولَة... ظَلِلْتُ أَتَجَرَّعُ الغيظَ بحتًا، وأنا أُصْغِي إلى الدُّكتور "طه" في محاضراتِه، ولكنِّي لا أستطيعُ أن أَتَكَلَّمَ، لا أستطيعُ أن أُنَاظِرَهُ كِفاحًا، وَجْهًا لِوَجْهٍ، وكُلُّ ما أقُولُه، فإنّما أقُولُه في غَيْبَتِه، لا في مَشْهَدِه.
تتابعت المحاضراتُ، وكُلَّ يومٍ يزداد وُضُوحُ هذا السَّطْوِ العُريان على مقالةِ "مرجليوث"، ويزداد في نَفْسِي وَضَحُ الفَرْقِ بين طريقتِي في الإحساس بالشِّعر الجاهليّ، وبين هذه الطريقةِ التي يَسْلُكُها الدُّكتور "طه" في تزييفِ هذا الشِّعر.
وكان هذا "السَّطْوُ"، خاصَّة ممّا يَهُزُّ قواعد الآداب التي نشأتُ عليها هَزًّا عنيفًا، بدأت الهيبةُ مع الأيّامِ تَسْقُطُ شيئًا فشيئًا، وكِدتُ أُلْقِي حِفْظَ الجميلِ وَرَائِي غيرَ مُبالٍ، ولَم يَبْقَ لِتَوْقِيرِ السِّنِّ عندي معنىً.
فجاء حديثُ الخضري، مِن حيث لا يريد أو يتوقَّع، لِينسفَ في نَفْسِي كُلّ ما التزمتُ به من هذه الآداب، وعَجِبَ الخضري يومئذٍ؛ لأنِّي استمعتُ لحديثه، ولَم أَلْقَهُ لا بالبَشاشةِ ولا بالحَقارةِ التي يَتوقَّعُها، وبَقِيتُ ساكنًا، وانصرفتُ معه إلى حديثٍ غيره.
وفي اليَوْمِ التّالي جاءت اللَّحْظَةُ الفَاصِلَةُ في حياتِي؛ فبعد المحاضرةِ طلبتُ من الدُّكتور "طه" أن يَأْذَنَ لي في الحديث، فَأَذِنَ لي مُبْتَهِجًا، أو هكذا ظننتُ.
وبدأتُ حديثي عن هذا الأسلوبِ الذي سمَّاه: "مَنْهَجًا" وعن تطبيقِه لهذا "المنهجِ" في محاضراته، وعن هذا "الشَّكِّ" الذي اصطنعه، ما هو؟ وكيف هو؟
وبدأتُ أُدَلِّلُ على أنّ الذي يَقُولُه عن "المنهجِ"، وعن "الشَّكِّ" غَامِضٌ، وأنّه مُخَالِفٌ لما يَقُولُه "ديكارت"، وأنّ تطبيقَ منهجِه هذا قائمٌ على التَّسليمِ تسليمًا يداخله الشَّكُّ، برواياتٍ في الكتب هي في ذاتها مَحْفُوفَةٌ بالشَّكِّ! وفُوجِئ طلبةُ قِسْمِ اللُّغَةِ العربيَّةِ، وفُوجِئ الخضيري خاصَّة.
ولمّا كدتُ أَفْرَغُ مِن كلامي، انتهرني الدُّكتور "طه" وأسكتني، وقام وقُمْنا لِنَخْرُج.
وانصرف عنِّي كُلُّ زملائي الذين استنكروا غضابًا ما واجهتُ به الدُّكتور "طه"، ولَم يَبْقَ معي إلا محمود محمد الخضيري، مِن قِسْمِ الفلسفةِ كما قلتُ.
وبعد قليلٍ أرسل الدُّكتور "طه" يُناديني، فدخلتُ عليه وجعل يُعاتِبُني، يَقْسُو حينًا ويَرْفُقُ أحيانًا، وأنا صامتٌ لا أستطيعُ أن أَرُدَّ؛ لَم أستطعْ أن أُكَاشِفَهُ بأنّ محاضراتِه التي نسمعها كلّها مَسْلُوخَةٌ من مقالة "مرجليوث"، لأنّها مُكَاشَفَةٌ جارحةٌ مِن صغيرٍ إلى كبيرٍ، ولكنِّي على يقينٍ مِن أنّه يَعْلَمُ أنِّي أَعْلَمُ، مِن خلال ما أسمعُ مِن حديثِه، ومِن صوتِه، ومِن كلماتِه، ومِن حركاتِه أيضًا! وكتمانُ هذه الحقيقةِ في نَفْسِي كان يزيدني عَجْزًا عن الرَّدِّ، وعن الاعتذارِ إليه أيضًا، وهو ما كان يَرْمِي إليه. ولَم أَزَلْ صامتًا مُطرقًا حتى وجدتُ في نَفْسِي كأنِّي أَبْكِي مِن ذُلِّ العَجْزِ، فقُمتُ فجأةً وخرجتُ غيرَ مُوَدِّعٍ ولا مُبَالٍ بشيء" (انتهى).
ونُكْمِلُ الحكايةَ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ -سبحانه- المُوَفِّقُ لِلصَّواب.