كتبه/ شحات رجب البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زالت حلقات إبراهيم عيسى -التي يقف فيها مدافعًا عن الزنادقة الذين مرَّت على زمنهم أزمان- مستمرة؛ كاشفًا بدفاعه هذا أحد أهم أهداف مركز تكوين، وهو: رعاية الزندقة ودعم الخروج عن الشريعة! فبعد ما حاول تبرئة "بشار بن برد"، انتقل بنفس المنهجية في الدفاع عن "الجعد بن درهم" مقتبسًا من كتب التراجم الثناء عليه، ويردُّ ما لم يوافق هواه من ذمِّ بدعته.
حاول إبراهيم عيسى في أول حلقته أن يظهر في دور المطالع لكتب التراث، فوقع في ثلاثة أخطاء في أول خمس ثواني من حلقته، فنسب للبخاري كتاب "أفعال البلاد" والصواب "خلق أفعال العباد"، وعرض أثناء ذلك صورة لكتاب آخر، وهو: "تاريخ الطبري"، ونطق اسم قاتل الجعد فقال في نسبته: "القسَري" بفتح السين، والصواب تسكينها كما في كتب الأنساب، وهذا يدل أن الاطلاع في كتب التراث مجرد ادعاء منه ومن معدِّي برنامجه!
اتهم إبراهيم عيسى كتب التراجم بعدم الحيادية؛ لأنها لم تذكر تفاصيل حياة الجعد وأمثاله؛ لأنهم يغردون خارج السرب! وهو كاذب في دعواه؛ فكتب التراجم ذكرت أصله وانتقاله إلى دمشق وعمله في تعليم مروان آخر خلفاء بني أمية، بل وبيَّنت كتب التراجم أن مسكنه بدمشق كان في حي النصارى، وغير هذا من التفاصيل التي ذكر إبراهيم عيسى طرفًا منها في حلقته.
وبعد عرضه لنقول الذهبي والصفدي من أن الجعد بن درهم قال: "لم يتخذ الله إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا"، وأنه أول من تكلَّم في خلق القرآن، وأخذه عنه الجهم بن صفوان؛ وصف كل ما تقدَّم بالأفكار والكلام والاجتهادات، وأن الجعد لم يكن قاتلًا ولا سفاحًا ولا عربيدًا، ولا قائد جيش للانقسام، وبالتالي فهو يحاول التهوين من مسألة العقيدة، ويجوِّز الكلام عن الله بغير علم، ووصفه بما لم يصف به نفسه، وما في هذا الكلام من تكذيب صريحٍ للقرآن الكريم؛ فكيف يُعدُّ هذا فكرًا؟!
الجعد بن درهم أراد أن ينفي كل صفات الله -تعالى- التي وَصَف بها نفسه، وكان تبرير إبراهيم عيسى لهذا الفعل -كما نقل عن البعض ولم يسمِّهم- أنه بالغ في توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة البشر، فنفى صفاته، مسمِّيًا هذا فكرًا، ينبغي أن يُرَدَّ عليه بالفكر لا بالقتل، كما فعل به خالد بن عبد الله القسري.
والحقيقة: أن صفات الله -تعالى- قد جاء بها الوحي، وإثباتها بلا تشبيهٍ ولا تمثيل هو الإيمان؛ أما تعطيلها ونفيها بحجة التنزيه فهو في حقيقته عدم تنزيه، وقد بيَّن ابنُ كثير في "البداية والنهاية" أصل بدعة الجعد فيما نقله عن ابن عساكر فقال: "وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله ? عن يهودي باليمن"، فتبيَّن بذلك أن كلام الجعد لا يُعدُّ تنزيهًا ولا اجتهادًا، بل هو كلام دخيل من خارج الإسلام.
ويحاول إبراهيم عيسى في دفاعه التشنيع بحادثة قتل خالد بن عبد الله القسري للجعد، وتصويرها على أنها جريمة ضد الإنسانية، فقد قُتِل بدون محاكمة، وفي يوم عيد وفي المسجد.
والرد على تشنيعه هذا هو: أن بدعة الجعد بدعةٌ مكفِّرة، يستحق بها القتل بعد إقامة الحجَّة عليه، وقد أُقيمت عليه أكثر من مرَّة فهي بمثابة المحاكمة، فقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية": "أن الجعد كان يذهب كثيرًا إلى وهب بن منبه، ويتحدث معه في باب الصفات، فقال له وهب يومًا: ويلك يا جعد، أقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدًا ما قلنا ذلك، وأن له عينًا ما قلنا ذلك، وأن له نفسًا ما قلنا ذلك، وأن له سمعا ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام، وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل".
ومما ذكر من مقالات الجعد الضالة: قال ابن حجر في "لسان الميزان": "إن الجعد جعل في قارورة ترابًا وماءً فاستحال دودًا وهوامًا، فقال: أنا خلقت هذا؛ لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن أحد العلماء، فقال: ليقل كم هو، وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه!".
فتبيَّن من هذا أن المحاكمة وإقامة الحجة عليه قد تمت، وكان خصام العلماء له سبب فراره من دمشق، ومع هذا لم يرجع عن بدعته، ثم كان قتله ضرورة نظرًا لوجود أتباع له، أبرزهم: الجهم بن صفوان مؤسس الجهمية.
وبعد ما حاول إبراهيم عيسى تبرئة ساحة الجعد بن درهم من الكفر، وإدانة السلفيين والعلماء والقضاة، وحكام المسلمين، إذا به ينتقل بالحديث إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي: نهاية خالد بن عبد الله القسري، وأنه قتل على الزندقة أيضًا، محاولًا جعلها كرامة للجعد بن درهم، متهمًا العلماء أنهم يفرحون لمقتل الجعد على الزندقة، ولا يذكرون أن قاتله خالد بن عبد الله القسري أيضًا قُتل على الزندقة أيضًا، فمن أين عرف إبراهيم عيسى خبر مقتل خالد إن لم تكن كتب التراجم قد أثبتته؟ ولو صدق لقال: ما أجمل إنصاف أهل الإسلام، فقد دوَّنوا في كتبهم قتل خالد للجعد على أنه من حسناته، فلما زاغ وضلَّ عاقبوه بنفس العقاب، أو يقال: إن الله سلَّط مبتدعًا على مبتدع.
فيتبيَّن مما سبق: أن إبراهيم عيسى ومن ورائه "تكوين" يُميِّعون مسائل العقائد تمييعًا فجًّا، من خلال الدفاع والتلميع لزنادقة سجَّل التاريخ زندقتَهم، فيحاول إبراهيم عيسى قراءة التاريخ قراءة عبثية في ضوء ما كتبه المستشرقون وغيرهم عن هذه القضايا، ولعلَّ قضية الدفاع عن الزنادقة تكون من أفضل ما يفضح أهدافهم.