نظرات في المنطلق الفكري لفراس السواح
كتبه/ شحات رجب البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زال مشهد منصة تكوين والشخصيات التي كانت قابعة عليها = عالقًا بالأذهان، وأصبح البحث عن هذه الشخصيات وآرائهم الفكرية، محل اهتمامٍ لدى كثير من الباحثين، ومن بين هذه الشخصيات المثيرة للجدل: ذلك المُسِنُّ السوري "فراس السواح"؛ الذي لفت الأنظار إليه عندما أجاب عن سؤال يوسف زيدان بأنهما أهمُّ من "طه حسين"، لكن الأخطر من هذا التصريح أنه صاحب الآراء التي تعارض صريح القرآن والسنة، مثل: نفي البعث والحساب، والجنة والنار، ونفي وجود أنبياء مثل آدم وموسى وإبراهيم -عليهم السلام-، ونفي وجود بني إسرائيل في مصر، وإنكار الخروج والتيه، ودخولهم بيت المقدس بعد موسى -عليه السلام-، ونفي عصا موسى، وغير هذا من القضايا التي قطع الوحي بحدوثها.
والحقيقة: أن الردَّ عليها سهل وميسور، لكن الذي يهمنا في هذا المقال بيان المنطلق الفكري الذي ينطلق منه "السواح" ويستند عليه؛ ألا وهو ما يُعرف بـ"الأركيولوجيا"، وفيما يلي بيان لهذا المصطلح وظهوره، وتطوره، واستغلال الملاحدة واللا دينيين له.
أولًا: مفهوم الأركيولوجيا:
تعرف "الأركيولوجيا" بعلم الآثار، وهو يهتم بالكشف عن الثقافات القديمة من خلال ما يقف الباحث عليه من الآثار المادية.
ثانيًا: الاهتمام الأركيويوجي بتاريخ الأنبياء:
بدأ الاهتمام بالأركيولوجيا كأحد روافد علم التاريخ، حيث يحاول الأركيولوجي من خلال ما يقف عليه من أدوات وحفريات أن يعطي تفاصيل أكثر للحدث التاريخي، أو يعطي تفسيرًا لبعض الأحداث التاريخية، وإلى هذا الحد لم تكن هناك مشكلة مع الأركيولوجيا.
وبعد ما ضعفت سلطة الكنيسة في أوروبا، وتراجعت عن احتكار تفسير كتابهم المقدس، أبدى بعض الباحثين الكثير من الشكوك فيه، وخاصة فيما يتعلق بتاريخ الأنبياء، فأسس الأركيولوجي الأمريكي (وليام فوكسويل ألبرايت) (ت: 1971م) مدرسة تهتم بالانتصار لتاريخية الأنبياء وخاصة إبراهيم -عليه السلام-، من خلال ما وقفوا عليه من آثار في فلسطين وما حولها، وظل نشاط المدرسة "الألبراتية" ممتدًّا خلال المدة من الأربعينيات إلى الستينيات من القرن الماضي، لكن لم يدُم هذا الاتجاه طويلًا، بل خلال عقد السبعينيات رحل أعلامُ هذه المدرسة، وواكب هذا صدور كتابين: الأول: "تاريخية روايات الآباء: البحث عن إبراهيم التاريخي" (عام 1974) لتوماس تومسون، و"إبراهيم في التاريخ والتراث" (1975م) لجون فان سيترز، والكتابان كانا بمثابة النقض للطرح السابق الذي رحل روَّادُه، وتأسيس لمدرسة أركيولوجية جديدة عرفت باسم مدرسة "الحد الأدنى"، وأطلق أصحابها على المدرسة المحافظة السابقة مدرسة "الحدِّ الأقصى"، وقامت المدرسة الجديدة على أيدي بعض الدارسين للكتب المقدسة وليس فيهم مشتغل بالأركيولوجيا أصالةً، فليس فيهم من عمل بالحفر واكتشاف الآثار، وملخص منهج هذه المدرسة أن كل الأنبياء المذكورين في الكتب المقدسة مجرد شخصيات رمزية، وقصصهم المذكورة هي نوع من الأساطير القديمة لعدم وجود دلائل أركيولوجية تشهد لقصص الأنبياء، وأنها مأخوذة من أساطير الأشوريين والسومريين، وغيرهم.
ثالثًا: تطور الأركيولوجيا وترحيب اللا دينيين العرب بهذا التطور:
وعمل على الترويج للمدرسة الجديدة حالة التشكيك التي بدأ يتبنَّاها الباحثون الأوروبيون من ناحية، وتحريف أهل الكتاب لكتبهم من ناحية أخرى، فمدرسة الحد الأقصى تحاول الانتصار لقصص الكتاب المقدس، وإخفاء مواطن التناقض فيه، ومدرسة الحد الأدنى تحاول كشف مواطن الضعف والتناقض.
وجد دعاة الإلحاد واللا دينيون العرب من طرح المدرسة الأخيرة سندًا لهم في تشكيكهم في القرآن الكريم، فتبنوا هذه الأطروحة التي ملخَّصها إنكار كل ما جاء في الكتب المقدسة من أحداث وشخصيات بحجة عدم وجود شواهد أركيولوجية لها.
ومن أبرز هؤلاء: فراس السواح (السوري)، وخزعل الماجدي (العراقي)، وأحمد سعد زايد (المصري)، عمل هؤلاء ومن سار على دربهم جاهدين في سحب انتقادات الأركيولوجيين للكتاب المقدس على القرآن الكريم.
وتلاحظ على هؤلاء الأسماء المذكورة أمور، منها: أنهم معروفون بدعمهم للإلحاد واللا دينية، ورغم اقتحامهم مجال الأركيولوجيا؛ إلا أنهم غير متخصصين فيه، بل إن أوَّلهم (السواح) حاصل على البكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة دمشق، ولم يحصل على أي شهادات عُليا بعد البكالوريوس، ثم اتجه إلى الميثولوجيا (تاريخ الأديان)، وعمل عامي 2012- 2013م محاضرًا في جامعة بكين للدراسات الأجنبية، ودرَّس مادة تاريخ الحضارة العربية، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط.
أما العراقي خزعل الماجدي: فقد حصل على الدكتوراة في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي ببغداد، ثم دكتوراة ثانية في فلسفة الأديان، لكن لم يُعرف عنه اهتمام بالآثار والحفريات فعليًّا غير كلام نقلَه عن المستشرقين، وإنما عمل جُلَّ حياته العملية في دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة العراقية، وفي وقت متأخر بدأت اهتماماته الأركيولوجية التي في معظمها أبحاث مسروقة عن المستشرقين، فإن أشهر كتبه: "أنبياء سُومريُّون: كيف تحوَّلَ عشرة ملوك سومريون إلى عشرة أنبياء توراتيين"، يحاول فيه أن يثبت أن الأنبياء الآباء المذكورين في التوراة هم في الأصل ملوك سومريون، وتسللت قصصهم وأساطيرهم إلى التوراة على أنهم أنبياء، وقد أثبت الباحث الدكتور سامي عامري أخطاءه العلمية وسرقاته عن المستشرقين في كتابه: "سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي".
ويمكن القول بأن العرب الذين اتخذوا الأركيولوجيا مطيَّةً لهم إلى بث التشكيك في وجود الأنبياء ليس فيهم أركيولوجي بالمعني العلمي المعروف، فلم يمارسوا التنقيب عن الحفريات، ولا تُعرف لهم اكتشافات أثرية، إنَّما مجرد سرقات عن أصحاب مدرسة الحدِّ الأدنى فضحت هذه السرقات الأبحاث العلمية.
رابعًا: الأركيولوجيا في الميزان العلمي:
في هذه النقطة نحاول الإجابة عن سؤالين، هما: ما مدى قدرة الأركيولوجيا على إعطاء صورة كاملة للماضي بما فيه قصص الأنبياء؟ وهل فعلًا لا توجد شواهد أركيولوجية تدعم ما حدَّث به القرآن؟
وبخصوص السؤال الأول: فإن الأركيولوجيا ليس لديها القدرة على إعطاء صورة كاملة للماضي لعدَّة أسباب:
1- الشواهد الأركيولوجية سواء آثار أو حفريات هي عبارة عن القدر المتبقي المتاح من الماضي، وليس الماضي كله، وقد تعرضت هذه الشواهد عبر الزمان لعوامل طبيعية، مثل: التعرية والتجوية متمثلة في الرياح، والفيضانات والسيول، والنحت والطمر، وتعرضت أيضًا للعوامل البشرية متمثلة في الهدم وإعادة البناء والاستزراع، والسرقة، وغيرها، فالقدر المتاح من الآثار لا يعطي صورة إلا بقدر حجمه تقريبًا.
2- الشواهد الأركيولوجية في الغالب تكون أشياء مادية؛ أدوات أو مبانٍ أو تماثيل، والأنبياء لم يكن لهم اهتمام بهذا الجانب المادي، إنما كان أثرهم معنويًّا "عقديًّا وغيبيًّا"؛ فكيف تظهر الأركيولوجيا هذا الجانب؟ إنما تظهر من خلال الوحي المُنزَّل على الأنبياء.
3- الذي صنع الشواهد والآثار والنقوش إنما هم الملوك وأتباعهم، وهم في الغالب كانوا معادين للأنبياء؛ فلا يعقل أن يسجل الملوك على حوائط قصورهم ومعابدهم مآثر الأنبياء وهم أعداء لهم.
4- لم ينتهِ الأركيولوجيون من مسح الأرض كلها بالتنقيب والحفر لاكتشاف الآثار، بل يقومون أحيانًا بعمليات الحفر في مكانٍ ما، ولا يكتشفون شيئًا، ويتم الحفر في مكان آخر لأعمال بناء عادية فيتم اكتشاف آثار لم تكن في الحسبان، فلم يغطِّ الأركيولوجيون جميع الأرض حتى تعطي نتائجهم صورة كاملة عن التاريخ.
5- كثير من الآثار تعرضت للتزوير قديمًا وحديثًا، حسب أمور أيديولوجية، منها على سبيل المثال في عام 1912 أعلن عالم الآثار البريطاني "تشارلز دوسون" اكتشافه لجمجمة ما سمَّاه: "الإنسان الأول" (البلتداون)، وعمرها 500 ألف سنة، وهذا الاكتشاف دعم بشدَّة الدارونية، ونال مكتشفه جوائز وشهادات، لكن في عام 1953م تم اكتشاف أن هذه الجمجمة قد تم تزويرها والتلاعب بها عمدًا؛ حيث إن الفك السفلي هو لقرد عادي عاش قبل 40 سنة تم تركيبه محل الفك الأصلي في الجمجمة التي اكتشف أن عمرها لا يزيد عن 600 عام فقط.
6- بالرغم من قلة ما يُكتشف من آثار؛ إلا أن كثيرًا من الآثار المكتشفة هي آثار صامتة تحتاج تفسيرًا، فليس كل المكتشف له تفسيرٌ وتُفهم دلالته.
7- بعض النقوش القديمة جاءت تحكي أحداثًا بعد مرورها بقرون طويلة، فتخضع لميول صانعيها، وتفتقد إلى قدر كبير من الدقة.
8- ظاهرة الفراغ الأركيولوجي وهي الفترات الزمنية التي لم يقف الباحثون بعد على شواهد أركيولوجية لها بخلاف الفترة السابقة واللاحقة لها؛ مما يعطي انطباعًا أن آثار هذه المدة قد أعدمت بفعل الإنسان، وقد وجد مثل هذا الفراغ في الآثار الأشورية في المدة التي يُنسب إليها يونس -عليه السلام-.
أمَّا السؤال الثاني: هل فعلًا لا توجد شواهد أركيولوجية تدعم ما حدث به القرآن؟ الإجابة: لا، فرغم ما ذكرناه من نقاط سابقة إلا أن هناك بعض الشواهد الأركيولوجية التي وقف العلماء عليها عرضًا تؤكد ما جاء في القرآن، وأقول عرضًا لعدم حاجة المسلمين لمثل هذه الشواهد، فالوحي عندنا أعظم دليل على قصص الأنبياء، ومن هذه الشواهد:
1- لوحة مرنبتاح المكتشفة عام 1896م والمحفوظة بالمتحف المصري، جاء فيها ذكر لاضطهاد فرعون لبني إسرائيل في مصر.
2- النقوش السومرية وملحمة جلجماش، وغيرها تحكي طوفانًا كبيرًا وقع بأرض الرافدين، وتستطرد في سرد ملوك ما قبل الطوفان، وهذا شاهد أركيولوجي على وقوع طوفان نوح -عليه السلام-، مع اختلاف في بعض التفاصيل، قد يكون سببه تسجيل القصة بعد حدوثها بزمانٍ.
وغير هذا من الشواهد الأركيولوجية على وجود الأنبياء تجدها في كتاب "الوجود التاريخي للأنبياء" للدكتور سامي العامري.
الخاتمة:
من العرض السابق يتبيَّن أن الأركيولوجيا كعلم يُعد أحد روافد التاريخ، ولا يجوز اختزال التاريخ كله فيه، وهذا العلم نشأ كعلم خادم لبقية العلوم؛ إلا أن اللا دينيين قد أرادوه مطيَّةً لهم إلى إلحادهم، ووسيلة لنقد الكتاب المقدس، ثم أكمل مسيرتهم مروجو الإلحاد من العرب، فسحبوا هذا على القرآن الكريم، ويعدون جهلهم دليلًا على العدم، فطالما قصرت أيديهم عن الوقوف على آثار الأنبياء، فوجود هؤلاء الأنبياء -بزعمهم- وهم، وقصصهم أساطير.
ووجود الأنبياء السابقين الذين اندرست آثارهم أمر غيبي، وركن من أركان الإيمان، لم يُجعل الإيمان به معلَّقًا بآثار قد تتلف مع الزمن، أو تزوَّر أو تخفى، أو يُساء تفسيرُها، إنما الإيمان معلَّق بما جاء به الوحي، من القرآن والسنة.