كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالآلام التي تتعرض لها الأمة في بِقاعها المختلفة، وهي تُعاني محاولات العودة إلى دينها -وأعداؤها قد آتاهم الله زينةً وأموالًا في الحياة الدنيا ليصدّوا عن سبيله- آلام تفوق الاحتمال، ومع ذلك فليس المؤمن بالذي يقضي وقته في العويل والنحيب، وهو لا يَهِن عن نصرة الحق، ولا يحزن الحزن الذي يُدخِله في دائرة اليأس والبؤس، قال الله -عز وجل-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:139-141).
وهذه حِكَم عظيمة يَشْهَدُها المؤمنُ بقلبه عندما يرى المِحن التي قد مرّت بالأمة قبْلها محنٌ أشد منها، وبقيت الأمة -بحمد الله- وبقي الدين، فليستْ نهاية العالم؛ لأن نهاية العالم يَسبِقُها أن يحكم الإسلامُ الأرضَ كُلَّها حين ينزل المَسيح -عليه الصلاة والسلام- كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ،) (متفق عليه) -كما تواترت به الأحاديث-؛ وطالما أنها ليست نهاية العالم؛ فلنتعلم مِن الآلام، ولنندفع نحو المستقبل.
مِن هذه الدروس:
أولاً: ضرورة مراعاة السنن الشرعية والكونية: فهذه السُنن لا تبديل لها (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62)؛ فليس مقبولًا أن نتوقع نصرًا وتمكينًا مع سوء أحوال وأخلاق وسلوكيات المسلمين الإيمانية، ومِن ضِمنهم أبناء حركات العمل الإسلامي.
فمع تَفَرُّق الأُمة كأوطان، وتَفَرُّق فصائل العمل الإسلامي، والصراع الشديد على السُلطة والتصدر الذي تستباح فيه الحرماتُ -مِن الدماء والأعراض والأموال-؛ هل نتوقع نصرًا خارقًا لموازين القُوى، ونزعُم أننا نتوكل على الله؟!
هل مع تصدر الاتجاهات المنحرفة التي تتبنى فِكر التكفير لكثير مِن الفصائل، والتي نكتوي بنارها في مجتمعات المسلمين؛ مما يصد عن سبيل الله مِن جراء التكفير والقتل واستباحة الدماء "باسم مقاتَلة المُرتدّين!"، والغدر ونقض العهد "باسم مقاتلة الكفار والصليبيين!"، وتزيين الانتحار للشباب "باسم الاستشهاد!"، وقتل مَن لا يجوز قَتلُه -خاصة النساء والأطفال- "باسم النِّكاية في الأعداء"؟! هذا كلُّه يؤخِّر الدعوةَ الإسلامية خطواتٍ كبيرة إلى الوراء؛ فهل نتصور إعلاءً للدين على أيدي هؤلاء المُنحرفين الذين أذاقوا المسلمين الآلام أضعاف غير المسلمين؟!
ثم السنن الكونيّة التي لا بد أن نراعيها -فكم ضَيَّعَت الفصائلُ في "الشام" المنكوب فُرَصًا!- دون سَيرٍ وراء العواطف التي لا تعرف موازنات القوة والضعف، والقدرة والعجز، والمصلحة والمفسدة، وقراءة الواقع العالمي الذي لا ولن يَرقُبَ في مؤمنٍ إِلاً ولا ذِمّة، ولكننا مأمورون بمُراعاةِ هذا الواقع شرعًا؛ قال الله -عز وجل-: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:66)؛ فمراعاة موازين القوى أمرٌ شرعيٌ -بيْن الوجوب في أوضاعٍ، والاستحباب في أوضاعٍ أخرى-، لكن لا يمكن أن تتفاوت القوى إلى الحد الذي نراه ثم يؤمر المسلمون بإهلاك أنفسهم!
ليس التوكل على الله بمُبيحٍ لنا إهدار هذه الأوامر الشرعية، والأخذ بالأسباب الممكنة، وعدم رفع سقف المطالَب فوق المحتمل المُمكِن، ثم نصطدم بِشِدّة بأرض الواقع، ونظل نُعاني سنواتٍ وربما عقودًا مِن كسور الارتطام!
ألم نأخُذ الدرس مِن أفغانستان، ومِن العراق؟ أم لا بد أن نُكَرِّر المأساة كلَّ مَرَّة؟!
العالَم لن يُعطِيكم أسلحة نوعية تَقلِب موازينَ المعركة على الأرض، ولسنا بقادرين على تصنيع سلاحنا، وخصوصًا أنه يتصدر المشهد جماعات مثل: "داعش"، و"النصرة" وغيرها؛ إنما يتركها العالَم الغربيّ لتُمهِّد الطريق نحو الإبادة للجميع، وبتبريرٍ يَرضَى عنه العالَم كلُّه، ويُصَفِّق لصانعي هذه الإبادة المُجرمة التي تحرِق كلَّ شيء، وكل أحد!
ليس مِن حَقّ أحدٍ أن يُعَرِّض ملايين المسلمين لآلام لا يحتملونها -ولا يستطيع الدفع عنهم- ثم يَصبُّ جامَ غَضَبِه على العلماءِ والدُّعاةِ والمُصلِحين، وبالطبع بعد الحكومات والدول، والتي يجزم الكُلُّ أنها تعجز عن صنع شيء لو أرادت؛ فكيف وهي لا تريد؟! فكيف وكثير منها يريد تكريس هذه الآلام؟!
تجد كثيرًا من الاتجاهات الإسلامية قد فرض على نفسه نمطًا واحدًا من التعامل، ظنه ناسخًا لما سبقه، وقد حمَّل نفسه وجماعته وأمته ما لا تطيق، حتى يفرض عليه الواقع وضعًا هو أسوأ بكثير مما كان يتهم مَن يقبله بالعمالة والخيانة، وتضييع الدين! ولو علم أن الواجب على المسلمين أن يعملوا في كل وقت وحال بمثل ما عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل حالهم؛ لحققوا أعظم المكاسب والمصالح لأمتهم، وجنبوهم أكبر الخسائر المفاسد.
والمتأمل السياسة الشرعية النبوية في المرحلة المكية، يجد أن المسلمين أُمِروا في هذه المرحلة بكف الأيدي عن القتال، والاهتمام بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ثم فرض القتال عليهم بعد ذلك، فكان القتال منهيًا عنه في هذا الوقت، وهذا الحكم معللٌ عند عامة أهل العلم بضعف المسلمين وقدرتهم.
من أهم سمات المرحلة المكية: "مرحلة المواجهة المنهجية والدعوية بلا قتال أو حمل سلاح":
1- تجنب المواجهة المسلحة: لما استأذن الأنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة لما بايعوه في الجهاد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لم أومر بذلك".
2- الثبات التام على الدين: اعتقادًا وعملًا ودعوة، وهذا هو الجهاد في هذا الوقت، قال الله -تعالى-: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان: 52).
القرآن المكي يتميز بقوة ما يظهر فيه من ثبات العقيدة التي استقرت في نفوس الصحابة -رضي الله عنهم- حتى هيأتهم للاستعلاء على الباطل في كل مكان بعد ذلك، وما أمروا به من الجهاد كان فرعًا على ما رسخ في قلوبهم في المرحلة المكية رغم استضعافهم؛ ولذلك لا نجد مداهنة في هذه المرحلة أبدًا، لا نجد مداهنة على حساب الدين، ولا نجد قبولًا للباطل؛ لأنهم ضعفاء، بل كان ظهور الحجة والبيان من أول لحظة، وكان الكفار يعترفون بذلك.
3- أمر المسلمين بالصبر والعمل البنائي العلمي التربوي من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وتحصيل التزكية.
4- الحذر من التنازلات المنهجية: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون).
5- الاهتمام بتقوية الروابط بين المسلمين، ومنع تسرب اليأس إلى قلوبهم وتبشيرهم بقرب الفرج.
ثانيًا: لا بد أن نتعلم مِن الآلام حقيقة قِيَم الحضارة الغربية التي ما يزال طائفة مِن أبناء أُمَّتِنا -ومِن جِلْدَتِنا، ويتكلمون بألْسِنَتِنا- مَن يُرَوِّجُ لهم في مجتمعاتنا، ويظن أن التقدم والحضارة في مُسايَرَتِهم، ويسعى لهدم ثوابِتِنا التي لا تتفق مع أهوائهم!
هل ترون حقيقة المساواة في حَلَب؟! أم في بورما؟! أم في الموصل؟!
هل ترون حقيقة حقوق الإنسان؟! هل ترون حقيقة محاربة العنف ضد المرأة والطفل؟! هل ترون حقيقة الحرية للشعوب؟!
أم هل ترون كيف تُصنعُ الأجيالُ القادمة على الكفر بكل شيء أمام الأهوال التي تراها أمام أعينها؟!
إن آلامنا الماضية في التاريخ أكثر مِن الحالية؛ يوم سقوط القدس في أيدي الصليبيين، ويوم سقوط بغداد في أيدي التتار، وأيام سقوط الأندلس في أيدي الأوروبيين؛ إلا أن زمانَنا يُوَثَّقُ فيه -بالصوت والصورة- هذه الآلام، لتظل شاهدة على قولِ الله -تعالى-: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة:10)، وقولِه: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) (النحل:105).
إنها حضارةٌ وحشية لا تَرحَم ولا تَعدِل؛ فإذا كانت قد فعلت بأبنائها في الحرب العالمية الأولى والثانية أضعاف ما يقع الآن، فما الظن فيما يفعلونه بنا؟!
فهل آن للمُنصِفين مِن شبابِنا ورجالِنا ونسائِنا أن يتخلّوا عن فكرة نشر التغريب بيننا؟!
ثالثًا: لا بد أن نتعلم مِن الآلام حقيقةَ "الشيعة" ومُخَطّطاتهم ومؤامراتهم تجاه أهلِ السُّنة، ومدى الحقد الأعمى الذي تَرَبّوا عليه تجاههم؛ قد آن الأوان لأبناء أُمَّتِنا ألا يوجد فيهم -خصوصًا أبناء الحركة الإسلامية- مَن يرى الخلاف بيننا وبينهم خلافًا سياسيًّا، أو خلافًا سائغًا يجب أن نتغاضى عنه ونسعى في التقارب معهم!
يجب أن تُراجَع هذه الآراء المنحرفة، وتعود إلى طريقة تعاملِ أهلِ السُنّة مع "الرافضة" عبْر الزمان؛ فهذه هي الوسطية الحقيقية، لا أوهام الوحدة الخيالية.
نسأل الله أن يعصم دماءَ المسلمين وأعراضَهم وأموالَهم، وأن يفرِّج كرباتِهم، وأن ينصرهم على عَدوِّه وعَدوِّهم، وأن يزيح عنّا المِحَن والفِتَن، والظلمَ والفساد.