كتبه/ محمد إسماعيل المقدم
الحمد لله على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على محمدٍ خاتَم أنبيائه، وعلى آله وصحبه ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم لقائه.
أما بعدُ؛
فإن من محاسن شريعتنا الغرَّاء أنها -رغم نهيها عن مدح الأخ لأخيه المسلم (في الجملة)- رغَّبَتْ في مدح الميت المسلم، والثناء عليه، ونشرِ محاسنه وإذاعتها بعد موته، ولم تقتصر على هذا فحَسْبُ، بل رتَّبت عليه العاقبة الجليلة، والثمرةَ الخطيرة حين بشَّرت بأن ثناء جمعٍ من المسلمين الصادقين في مدحهم -أقَلُّهم اثنان- على الميت بخير؛ يوجِب له الجنةَ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أثنيتُم عليه خيرًا وجبَتْ له الجنةُ، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
وقد جزم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بأن هذه الشهادة لا تختص بالصحابة -رضي الله عنهم-، بل هي أيضًا لمن بعدهم من المؤمنين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعةُ أهلِ أبياتٍ من جيرانِه الأَدْنَيْنَ أنهم لا يعلمون إلا خيرًا؛ إلا قال الله -جل وعلا-: قد قَبِلْتُ عِلْمَكم فيه، وغفرتُ له ما لا تعلمون).
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّما مسلمٍ شهِد له أربعةٌ بخيرٍ أدخله الله الجنة)، قلنا: وثلاثة؟ قال: (وثلاثة)، قلنا: واثنان؟ قال: (واثنان)، ثم لم نسأله عن الواحد. ورُويَ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اذكروا محاسنَ موتاكم، وكُفُّوا عن مساويهم".
لقد فُجِع أهلُ السنة في مصر برحيل قيِّم الدعوة السلفية الشيخ المفضال المهندس أبي إدريس محمد عبد الفتاح -رحمه الله تعالى- عن دنيانا بعد رحلة طويلة حافلة بالبذل والعطاء، والصبر والإنجاز.
وكنت تعرَّفت إليه -رحمه الله- منذ حوالي نصف قرن من الزمان عن طريق جارٍ له وصديق حدثني عن ذلك الشاب المتأنق في ملبسه، الراقي في مسلكه، الذي يرتاد المطاعم الفخمة، ويلتزم آداب المعاملة الراقية (الإتيكيت)، وسرعان ما نشأت بيننا أخوَّةٌ في الله صافية، فكنا نلتقي في معظم صلوات الجماعة في مسجد علَّام القريب من بيته، أو في صلاة الفجر بمسجد أبي راجح (التاريخي) مع سائر الأحباب من ثلَّة (محرم بك) الأوفياء الكرام، وكنا إذا فرغنا من الصلاة نجوب الشوارع المحيطة ونحن نتناقش في مسائلَ علمية، بل ربما لُخِّصت بعض الكتب في أثناء هذا التَّجوال.
وكان من أول ما قرأه كتابُ "مختصر منهاج القاصدين" الذي طبع أثرًا عميقًا في نفسه، حيث شرع يتمسك بالهدي الظاهر، ويواظب على صلاة الجماعة، ويكثر الذكر والنوافل، وما أكثر ما رأيته يتوارى خلف منبر مسجد علام، ويكثر من التنفل خُفْيةً كي لا يراه أحد! لأنه لم يكن شخصية استعراضية، بل هو الخُمول والفرار من الشهرة، والانهماكُ في عمل السر.
لقد نبت أبو إدريس -رحمه الله- في أسرة كريمة أحسنت تربيته وتهذيبه، وكان أولَ ما يجذب انتباه مَن يقترب منه حسنُ خلقه، وطِيبُ معشره، وطولُ صمته، وقلةُ كلامه، وعفَّةُ لسانه، بحيث لا يعرف الكلامُ المعيب أو اللغو الفارغ إلى لسانه سبيلًا، إنما هو الجدية والنظام والانضباطُ بكل ما تحمله هذه الأوصاف من معنى.
أُشْرِبَ أبو إدريس في قلبه حُبَّ العلم الشرعي، وعشق كتبه، حتى كوَّن مكتبة منزلية ضخمة ضمَّت أمَّهات الكتب في كل العلوم الشرعية، لاسيَّما علم الحديث، واختار أن يُكنى أبا إدريس بسبب حبه العميق وتعظيمه الكبير للإمام محمد بن إدريسَ الشافعي -رحمه الله-.
وكان بارعًا في "التربية الفردية"، حيث كان يصطفي بعض نوابغ الشباب، ويتبناهم علميًّا، ويرعاهم تربويًّا.
ورغم ملكته في حُسن التصنيف -كما تشي بذلك آثاره- فإن موهبته الإدارية التنظيمية غلبت عليه، فكانت المجال الغالب على نشاطه فيما تلا من مراحل حياته، وكان من أهمها حين قاد العمل الإسلاميَّ في "كلية الهندسة" فأداره بكفاءة واقتدار، ما أدى إلى ازدهار الدعوة وانتعاشها.
وكان من أهمها أيضًا حين صار "قيِّم المدرسة السلفية"، ولذلك قصة:
إذ شاع بين الشباب في ذلك الوقت التوسعُ في إطلاق لفظ "أمير"، حتى كان في المسجد أمير الصلاة، وأمير الأذان، وأمير الطعام، وكان أيضًا يشيع لقب "أمير الجماعة الإسلامية"، ولَمَّا نشأت "المدرسة السلفية" باعتبارها مؤسَّسة تعليميَّةً تعلِّم العلوم الشرعية بمنهجية، آثرتُ أن أسمِّيَ القائم بإدارتها "القيِّم"؛ تجنبًا للَقْبِ "أمير" ونحوه، واقتداءً بلقب والد الإمام ابن القيِّم الذي كان قَيِّمًا للمدرسة الجَوزية.
وكان الأخ العزيز الدكتور أبو ذر عادل العدوي أولَ قيِّم للمدرسة السلفية، ثم بعد فترة صار أبو إدريس رحمه الله القيِّمَ الثانيَ للمدرسة السلفية.
وخلال مراحلَ كثيرةٍ تالية من تاريخ الدعوة ساهم بفعَّالية كبيرة في التأسيس الإداري والهيكلي للدعوة السلفية وقيادتها في العسر واليسر؛ الأمر الذي فصَّل الكلام فيه عدَّة إخوة في كتاباتهم وشرحوا مناقبه وإنجازاته التي استمرت إلى آخر حياته العامرة.
ألا رحم الله الشيخ أبا إدريس، وفسح له في قبره، ونوَّر له فيه، وخلفه في أهله وعقبه وذريته، وجمعنا به في دار كرامته؛ فإنه أقرب مَن دُعِي، وأجود من أعطى، وأكرم من سُئِل.
وَدِّعا أيُّها الحَفِيَّانِ ذاكَ الــــ ... ــــشخصَ إنَّ الوداعَ أيسرُ زادِ
واغْسِلاهُ بالدَّمعِ إنْ كان طُهْرًا ... وادْفِناهُ بين الحَشا والفؤادِ
وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرًا منها.