كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن المألوف أن تبكي القرابة على مُتوفَّاها، أما أن تجد ذلك في أناسٍ لا تربطهم صلة قرابة بالمتوفَّى؛ فهذا يدلك على قدر ذلك الإنسان ودينه وخلقه؛ ذلك ما كان في جنازة الشيخ محمد ممدوح -رحمه الله-، بكاه من عاشره واقترب منه لعظم فاجعتهم بوفاته، فقد كان للكثيرين ممن حوله أبًا وشيخًا ومربيًّا، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويعيش معهم مشاكلهم وظروفهم، ويساعدهم ماديًّا ومعنويًّا، لم يترك الشيخ ولدًا يدعو له، ولكن ترك من تلامذته وإخوانه من يدعو له إن شاء الله، فلم يترك الشيخ ولدًا من صلبه، ولكني لم أره إلَّا راضيًا محتسبًا، ويذكر لي أن الله عوَّضه عن الأولاد بكتاب الله وزوجة صالحة، وقد رزقه الله من برِّ تلامذته ما هو أكثر من برِّ أولاده، فكانوا يتفانون في خدمته، بل يتمنون خدمته، رغم أنه كان لا يرغب في ذلك، ولا يريد أن يشق على أحد، ويرفض حتى أن يحمل له من في سن أحفاده بعض حاجاته البسيطة، وكان يخدم نفسه، حتى إ ني من كثرة طلبي لخدمته ورفضه قلت له: إن كل من حوله يحبون ذلك أشد الحب، وأنه يكرمهم بذلك.
ولد الشيخ محمد ممدوح حسن -ومحمد ممدوح هو اسمه المركب، فاسم والده: حسن رحمهما الله- في ثاني أيام عيد الأضحى لعام 1371هـ، الموافق للأول من سبتمبر عام 1952م، وتوفي يوم الخميس ثاني أيام عيد الفطر عام 1445هـ، ودفن يوم الجمعة، بعد أن صلَّى عليه جماعة ممن نظن بهم الخير والصلاح، وصلَّى عليه أحد من كان لهم في قلب الشيخ مكانة وهو الشيخ ياسر برهامي حفظه الله.
حصل الشيخ على بكالوريوس التربية، وعمل مدة في وزارة التربية والتعليم مدرسًا لمادة العلوم، وكان لهذه المدة أثرها في طريقة تدريسه الشرعية وطريقة عرضه للعلم الشرعي وأقوال العلماء والفقهاء، وعمل مديرًا للمدارس العلمية الشرعية ببعض البلاد الإسلامية، والتي كانت تخرِّج طلبة العلم الشرعي.
علاقته بالقرآن:
أتقن الشيخ رحمه الله تعالى حفظ كتاب الله تعالى، وأخذ عدَّة إجازات فيه من علماء خارج مصر وداخلها، منهم: الشيخة أم السعد.
من جهود الشيخ في علوم القرآن أن صنع خرائط للقرَّاء وطرقهم، فيما أظن أنه لم يسبق إليه، وتعليمه القرآن حتى ختم القرآن على يده عدد كبير من الناس.
وكانت علاقته بمشايخ القرآن جيدة، من مشايخ معهد القراءات وغيرهم.
كان للشيخ ورد يومي من القرآن، وكان يقول: لم يحفظ القرآن إلَّا من قرأه ناسيًا، فتعجبت وقلت له: كيف يقرأ ناسيًا؟ قال: كما يقرأ الفاتحة، فإنه يقرأها حتى ولو كان منشغلًا وساهيًا، وصلَّيت وراءه في صلاة التراويح مرة فلم يخطئ في آية طيلة حوالي سبعة عشر يومًا، وكان دائمًا يَنهى الأئمة عن القراءة من المصحف في التراويح ويشدِّد في ذلك: أنه لا بد أن يراجع ويتقن ويقرأ من حفظه، ويؤكد على كل من يحفظ القرآن أن يكون له ورد يومي من القرآن.
وكانت خاتمته مع القرآن، أن ختم في شهر رمضان الذي توفي بعده -وقد صامه كله رغم مرضه- فختمه في صلاة التراويح مع زوجته عشر ختمات، وآخر ختمتين كانت بصوته وكأنه شاب، وكان الشيخ قد وقعت بعض أسنانه بسبب المرض، ولكنه قرأ الختمتين الأخيرتين وكأنه لم تسقط شيء من أسنانه، فرحمه الله رحمة واسعة.
طلبه للعلم:
كان رحمه الله شغوفًا في طلب العلم والقراءة، كان يقرأ في سنواتٍ من عمرة ثمانية عشر ساعة في اليوم، وتتلمذ على يد بعض علماء باكستان، وقرأ عليهم القرآن، وصحيح البخاري، وغير ذلك من علوم الشريعة، وجلس للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب التفسير، وله مجلس معه في بيته سأله فيه في عشر مسائل، وجلس للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وكانت للاجتهادات العلامة العثيمين قدر كبير عنده، وله مكانة كبيرة في قلبه.
بالإضافة إلى مشايخ الدعوة السلفية خاصة الشيخ أبو إدريس رحمه الله تعالى، الذي ربطته به علاقة وثيقة حين كان إمام مسجد البخاري بمنطقة جليم، والعمل معه في مركز الهدى للدراسات، والشيخ محمد إسماعيل حفظه الله، وتخرج من معهد الفرقان، وله علاقات محبة وود مع مشايخ الدعوة كلهم، وكذلك مع غيرهم من أهل العلم كالشيخ العكازي والدكتور عبده الراجحي رحمهما الله.
وكان يحث مَن حوله على طلب العلم، والجلوس لأهله، وطلب العلم على يد العلماء لا من الكتب، والتربية على ذلك، وكان يدل على سماع دروس أهل العلم المعاصرين خاصة الشيخ ياسر برهامي حفظه الله، بل كان يطلب مني بعض دروسٍ للشيخ بعينها ليسمعها، وأبلغني رسالة إلى الشيخ: بأنه خسر كثيرًا بعدم مجالسته في سنواته الأخيرة.
وكان الشيخ دومًا يطلب مني موافاته بأخبار الدعوة والمشايخ، ومواقف الدعوة وتوجهاتها وقراراتها، وأسباب ذلك وحيثياته، وظل إلى آخر حياته على ذلك.
كان عنده احترام وتقدير لأهل العلم القدامى والمعاصرين وأقوالهم، بما لم أجده عند الكثير من المشهورين، بل كان قمَّة في الأدب مع أهل العلم وأقوالهم، وكان يشتدُّ على كل من لا يتكلم عن أهل العلم بالطريقة اللائقة بهم، وهذا من أكثر ما تستفيده من الشيخ رحمه الله، في وقت تطاول فيه الأقزام على رؤوس الأمة.
وحتى حينما يتكلم عن أهل البدع فأسلوبه غاية في الرُّقي، يعرض الحق بأدلته، ويفنِّد شبهات المخالفين، ولا يتعرض لأعراضهم أو أي شيء يخرج عن النقاش العلمي المفيد، فقد كان عفيف اللسان عن الناس، لا يتكلم على أحد، ولا يذم أحدًا فلم يكن سبابًا ولا لعَّانًا.
درس الفقه على المذهب الشافعي، ولم يكن أبدًا متعصبًا لمذهب أو لقول، بل يدور مع الدليل حيث دار، مع تأكيده على قدر العلماء وأن أقوالهم واجتهاداتهم يستفاد منها؛ فإنهم أصحاب علم وقدر في الأمة، ولا يتعمدون مخالفة الحديث، ولا يصدرون إلَّا عن علم وأصول وقواعد وضوابط، وليسوا بأصحاب هوًى وشهوات، أو طالبي مناسب ومتاع من الدنيا، وقد نحتاج إلى هذه الاجتهادات في بعض المواقف والأحوال أو الأزمان.
وكان الشيخ عميق الفهم في دين الله عز وجل، والفقه في الكتاب والسنة، وحينما يسأل لا يقول يجوز أو لا يجوز بالدليل فقط، وإنما كان يدل المخطئ أو صاحب العقد الفاسد أو التعامل الخاطئ على كيفية الصواب، ويوجِد له البديل الشرعي لما هو فيه، وكانت هذه ميزة كبيرة لا تجدها عند الكثيرين، وكان عنده رحمة كبيرة بالناس، ويشعر بمعاناتهم وأحوالهم، ويظهر ذلك في معاملاته معهم أو إجاباته لأسئلتهم.
مع امتيازه في شرع العلوم الشرعية بطريقة مبهرة، بل كان في دروسه يطرح أقوال العلماء ومذاهب الفقهاء واختلافهم على عوام الناس بطريقة سلسلة بسيطة منمقة، حتى أنهم لو لم يذكر الشيخ ذلك في أحد دروسه يطالبونه هم بعرض أقوال الفقهاء.
وكان الشيخ سلفيًّا على الجادة، يتمسك بالهدي السلفي والمنهج السلفي والفهم السلفي في كل أموره وأحواله، وكان يحث كل من يعرفه على التمسك بذلك، وكان دائمًا ما يوجه: أن ننتفع بتكنولوجيا العصر مع التحذير من أن تغيَّر شيئًا من السلفية أو الطريقة السلفية والمنهج السلفي.
زهده رحمه الله:
كان الشيخ رحمه الله غاية في التواضع، في ملبسه ومأكله ومشربه، مع نظافة وهندام، وبيته في غاية التواضع، لا ترى فيه شيئًا يرد البصر، أكثر شيء فيه الكتب، خاصة كتب القراءات وما يخص القرآن، وليس ذلك عن بخل أو فقر فقد كان كريمًا رحمه الله سخيًّا، عرف ذلك من عاشره، لكنه يتقلل من الدنيا.
تواضعه رحمه الله:
كان الشيخ مضرب المثل في التواضع وهضم حظ النفس، واحترام الصغير والكبير، حتى إنك إذا رأيته يتكلم مع إنسان حديث الالتزام كأنه يكلم أحد العلماء، وإذا تحدث عن بعض من يخالطهم -وهم أسمى أمانيهم أن يجلسوا دقائق معه يستمعون إليه- كأنه يتحدث عن مشايخه ومن تتلمذ على أيديهم، حتى لُمته يومًا في ذلك فقال: هذه أخلاق تربينا عليها.
من أخلاقه رحمه الله:
كان صاحب خلق رفيع، بل هو أخلاق المؤمنين تمشي على الأرض، لا أظن أن أحدًا عاشره ولم يحبه، بل كان -كما حدثني أحد المقربين إليه- سببًا في التزام أناس بسبب هديه وسمته وخلقه وتعاملاته، وكان له تأثير في كل من حوله.
وكان صاحب عبادة وورع، رأيت بعض ذلك بنفسي.
وكان لا يحب الشهرة، بل يهرب منها، حاولت معه مرارًا وتكرارًا أن أسجِّل له بعض دروسٍ أو محاضرات، فكان يرفض، ولم يكن إلَّا كلمة سُجِّلت في احتفال ختام دورة معلم القراءة في حضانة مسجد بدر، وآخر خِلْسة سجَّله له أحد الأخوة في حفل زفاف دون علم الشيخ، أو ما سجِّل بغير إذنه ومعرفته، فكان يرى رحمه الله أنه ليس أهلًا لذلك، مع علمه الذي يعرفه القريب والبعيد، وكان لا يحب المدح ولا الثناء، ويستاء من ذلك، ويقول: ليس هذا من الهدي السَّلفي، فرحمه الله رحمة واسعة.
كان عفيف اللسان، قليل الكلام، ما سمعته يغتاب أحدًا أو يتكلم في عرض أحد، حسن الاستماع لمن جالسه، صاحب ابتسامة رقيقة، وحسن استقبال، سهل لين، لا تجد صعوبة في الحديث معه أو العلاقة به، مع هيبة ووقار، له طريقة رائعة في النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد شاهدت من ذلك ما تمنيت أن أكون وإخواني والدعاة إلى الله بهذا الفقه وهذه الطريقة البديعة.
ولكي تعلم ما وصل إليه من خلق وحسن تعامل فإليك هذه القصة: أراد يومًا أن يترك مسكنه إلى مسكن آخر لبعض المضايقات في عقاره الذي يسكن فيه، فنزل جيرانه ورفضوا أن يتركهم، وأزالوا ما كان يضايقه، فكم رأيتم أو سمعتم عن مثل ذلك؟
وكان في نصائحه وتوجيهاته يجمع بين العلم وفقه الواقع والخبرة الحياتيَّة، ولقد استفاد من نصائحه كثير من طلاب العلم، وكانت نصائحه وتوجيهاته سببًا في تغيُّر جذري في حياتي وحياة أناس أعرفهم.
هذه لمحة سريعة عن الشيخ، وتعريف به بسيط، وحياته فيها أكثر من ذلك، لكن كتبنا ما كتبناه استعجالًا بالخير؛ ليستفيد منها إخواننا وأحبابنا.
رحم الله علماءنا ومشايخنا الأموات، وبارك في عمر الأحياء وحفظهم، وحشرنا في زمرة النبيِّين.
وصل الله وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.