كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 1، 2)؛ تلك هي حقيقة الدنيا أنها اختبار من الله -تعالى- يبدأ بالحياة والنفخ في الروح، وينتهي بالموت وانفصال تلك الروح عن الجسد، ليبلى ذلك الجسد ويتحلل ويعود مرة أخرى إلى الأرض متجردًا من كل متاع الدنيا، فلا يبقى لا ثياب ولا ثروات ولا مناصب، من التراب وإلى التراب.
وبينهما ينتقل الإنسان بين أنواع مختلفة من الحياة؛ فقد مر على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، لم يعلم أحد به إلا خالقه الذي أخذ عليهم العهد وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ لتكون الإجابة بالإقرار والإذعان.
ثم يشاء الله -سبحانه وتعالى- أن يخلق الإنسان نطفة في بطن أمه بمعايير حياة مختلفة؛ يرسل له رزقه عن طريق مشيمة تربطه بجسد أمه، حتى إذا اكتمل نموه ولد ضعيفًا لا يقدر على شيء سوى البكاء، ومن رحمة الله به أنه -سبحانه وتعالى- يخلق في قلب أبويه الرحمة التي تجعلهما حريصان على أن يوفرا له كل أسباب الحياة، بل يخلق الله -سبحانه وتعالى- في قلب أبويه أنواعًا من المحبة تجعل الأبوين يجوعان ليأكل، ويعريان ليلبس، ويتحملان المرض ليوفران له العلاج، بل وربما يموتان ليعيش، في علاقة عجيبة يستخرج بها أرق المشاعر الإنسانية.
ثم يمر قطار العمر سريعًا سريعًا، من فتى صغير يتلمس خطواته، لشاب فتي مملوء بالطموح، لكهل صقلته الحياة بالخبرة والتجربة والعلم، لذي شيبة فانٍ يتكئ على عصاه، ليعود مرة أخرى ليحيا بأسباب جديدة من الله -سبحانه وتعالى-، فيخلق الله في قلوب أبنائه من المحبة والتقدير ما يجعلهم يسعون لبره ومصاحبته في الدنيا معروفًا، وخفض جناح الذل له رحمة به، فسبحان اللطيف الخبير الذي يدبر لعباده وخلقه أرزاقهم ومعايشهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يشكرون.
ولحظات التفكر والاعتبار في هذه الدنيا محدودة قصيرة؛ يقف الإنسان مع نفسه كل بضعة سنوات لينظر لملامح وجهه التي تتغير، وتلك التجاعيد التي تنحتها السنون على جبهته، أو لوزنه الذي يزداد، أو لتلك الشعيرات البيضاء التي تغزو شعر رأسه ولحيته رويًدا رويدًا، وتنتصر في كل معركة حتى تحتل رأسه كله، أو تلك الشعيرات التي تودع رأسه دون عودة! يقف ويتساءل كيف مرت تلك المدة وتسربت بتلك السرعة، ولكن سرعان ما تجذبه دوامة الدنيا ولا يفيق إلا بعد بضعة سنوات ليردد ذات الأسئلة المتعجبة عن مرور الأيام وأثر السنين على ملامحه.
ومن الأمور التي توقظ لحظات التفكر في حياة الإنسان: "الموت"؛ تلك الحقيقة التي لا لبس فيها، والمصير الذي ليس عنه محيد، سماه الله -سبحانه وتعالى- في كتابه مصيبة الموت، لما فيه من فقد الأحبة وفقد الصحبة وفقد المعيل وفقد الرفيق وفقد الناصح، فالفقد هو النتيجة الطبيعية بعد الموت وانقطاع اللقاء مع من نحب.
وتشتد وطأة الفقد حين يكون الميت عظيم النفع للمسلمين من علماء ومصلحين، ممن تحمل في سبيل الله أن يكون راحلة حين تندر الرواحل، وأن يكون ممن يحملون منارات الطريق لغيرهم ويضعون العلامات على الدروب ليسير الناس مطمئنين في طريق الرشاد، فعلى هؤلاء تبكي البواكي.
إن الاصلاح شعار الأنبياء: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: 88)، وحقيقة دعوة الأنبياء هي تحقيق العبودية، عبودية الفرد وعبودية الأمة، فعلى الفرد واجبات وعلى الأمة في مجموعها واجابات، ويتسع الإصلاح ليشمل كل مناحي الحياة، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
ويتدرج الإصلاح من إصلاح الفرد وتزكيته، إلى إصلاح الأسرة ثم إصلاح المجتمع، ثم إصلاح الدولة ومؤسساتها.
وإصلاح الفرد يشمل إصلاح عقيدته وعبادته ومعاملاته وأخلاقه ودعوته.
وإصلاح الأسرة يبدأ بحسن الاختيار عند الزواج، ثم حسن العشرة والقيام بالمسئولية وتربية الأبناء، وما يلزم ذلك من الدورات المؤهلة للزواج، وتثقيف الأزواج فيما يتعلق بتربية الأولاد، ثم المشاركة في إنشاء مراكز الإرشاد الأسري للإصلاح بين المتزوجين وإعانتهم على فهم بعضهم البعض، وفهم جذور المشاكل التي تحدث بينهم وإرشادهم لعلاجها، وأن يكون محور الأسرة إقامة العبودية لله في أنفس الوالدين والأبناء وتحقيقها في واقعهم.
وإصلاح المجتمع بحر واسع تكاد لا تصل له لساحل، من إصلاح العلاقات وتقوية الأخوة الإيمانية بين أبناء المجتمع، والفصل في الخصومات بشرع الله، وتحصينه من الشبهات والشهوات التي لا يتوقف أصحابها عن محاولات جر المجتمع لها، وتقديم المساعدات للمواطنين وتنمية المجتمع في جميع المجالات، وإرساء مبادئ التعاون على البر والتقوى، والقيام بفروض الكفايات من نشر العلم ونشر العقيدة الصحيحة وتجميع الصدقات من الأغنياء وردها للفقراء، ومن إقامة صلوات العيد والجمع والجماعات وإعداد المفتين الذين لا غنى للمجتمع عنهم.
والاهتمام بكل شرائح المجتمع من أطفال وشباب ونساء، بالأنشطة التعليمية والتثقيفية والتنموية الخاصة بكل شريحة منهم.
وإصلاح الدولة يشمل إصلاح السلطات الثلاث وما تتضمنه من الإصلاحات التشريعية بحيث تتوافق هذه القوانين مع الشريعة الإسلامية، ولوازم ذلك من المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات، وكذلك المشاركة في الإصلاحات الإدارية ومكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمحاسبة ووجود جهاز رقابي فعال. والإصلاحات الاقتصادية وإظهار فساد المعاملات الربوية ورسم طريق واضح للمعاملات الجائزة وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، والإصلاحات السياسية ووجود نظام انتخابي عادل، وتحقيق كفاءة الجهاز الإداري حيث ينبغي أن يكون هذا الجهاز الإداري يتسم بالحيادية والموضوعية، وتعزيز قيم العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وقيام الدولة بدورها تجاه المواطنين، وإصلاح منظومة العدالة الناجزة.
وعموما فالإصلاح يشمل جميع مناحي الحياة، ونصيب كل مصلح من ذلك على قدر فهمه للإصلاح، وعلى قدر اتساع أفقه، وعلى قدر خبرته وممارسته، وعلى قدر ما فتح الله عليه من العلم بالشرع والواقع معًا.
فمن الناس من يكون إصلاحه على نفسه، ثم يتعامل مع المجتمع من خلال إنكاره بقلبه ما يراه من مخالفات، ولا يتعدى ذلك لمحاولته إصلاح المجتمع من حوله.
ومن الناس من يأخذ بابًا واحدًا من أبواب الإصلاح، كمن يهتم مثلًا بأمر الدعوة لمحاسن الأخلاق أو فضائل الأعمال، ثم يتخذ منبرًا واحدًا للحديث للناس، كوسائل التواصل أو الفضائيات، أو يأخذ باب تعليم الناس العلم النافع، ومن الناس من يتخصص في جزء من أبواب العلم؛ كمن يتخصص في تعليم الناس مصطلح الحديث، أو من يتخصص في باب إفتاء الناس وإرشادهم للحلال والحرام، ومن الناس من يهتم بالجانب الاجتماعي فيقيم المعارض الخيرية أو يقدم الخدمات التعليمية أو الخدمات الصحية، وفي كل خير شرط ألا يعتقد أنه قد أحاط بالإصلاح من جميع جوانبه، وألا يزدري أعمال غيره خاصة من يفوقه في إدراك كثرة أبواب الإصلاح والمشاركة فيها.
ولكن قلة من المصلحين من يدرك كل تلك المجالات، ويسعى أن يكون له سهم في كل تلك المجالات، وهذا يستلزم حسن فهم الشرع، ثم إدارك حاجة المجتمع في كل تلك المجالات، ثم يقوم بلازم ذلك؛ من جمع جهود المسلمين وتثقيفهم فيما يتعلق بأهمية تلك المجالات، ثم تهيئة هذه الجهود ووضع القواعد المنظمة لها والتأليف بين قلوبهم، وتوحيد الرؤية والجانب الفكري والإداري، ثم تربية الناس على آداب العمل الجماعي ودفع الناس نحو التعاون على البر والتقوى، فلا مجال أن يقوم الأفراد متفرقين بهذه الأنشطة، بل لابد من الاجتماع للقيام بها.
ولك أن تدرك فارق الجهد والخبرة والإدراك بين ذلك المصلح الذي يساهم في جزء من باب من أبواب الإصلاح، وربما ظن أن ذلك الجزء هو غاية المنى ومنتهى القصد، وبين ذلك الداعية الذي أدرك أولا معنى الإصلاح الشامل الذي يشمل كل مناحي الحياة، ثم أدرك أبواب الإصلاح بابًا بابًا، ثم دعى الناس للمشاركة فيها، ثم جمع جهود من استجاب له، ثم علمه ودرَّبه ووضع القواعد المنظمة لعمل المتطوعين في المجالات المختلفة، ثم ظل مراقبًا لكل هذه الجهود ينصح هذا ويساعد هذا ويحمس هذا، وربما تعرض مع كل هذا الجهد الذي يبذله لإصلاح مجتمعه لمضايقات ودفع ضريبة عمله من وقته أو ماله أو أمنه، وربما مع كل هذه الجهود لم يسلط على جهده الضوء، بل ربما تعرض للذم والسب والانتقاص ممن لم يبلغ معشار علمه أو عمله أو خبرته.
تخيل كل هذا لتدرك حجم الخسارة التي نخسرها برحيل أولئك المصلحين -أولئك الرواحل- واسعي الإدراك عاليي الهمة، ممَّن صقلته السنون ومحصته التجارب، وصار خزانًا للخبرة يمشي على الأرض، وعزاؤنا أن تلك سنة الله في خلقه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران: 185)، وأنه سيكمل الطريق من بعدهم ثمرة دعواتهم من دعاة وعلماء، ممن فهموا معنى الإصلاح الشامل، وتعلموا منهم أن أبواب الإصلاح متعددة، وأن نهوض الأمة يستلزم أن نساهم في كل تلك الأبواب، وأن الطريق يحتاج لصبر وتحمل، وأن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وعزاؤنا أن إمام المصلحين -صلى الله عليه وسلم- قد رحل، فقد قضى -سبحانه وتعالى-: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر: 30)، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران: 144).
وكان في موت النبي -صلى الله عليه وسلم- العبرة والعظة والتسلية عن أي فقد وموت آخر، مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي؛ فأي مصيبة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أهون، ومن حِكَمِ الله بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن الدين لا يرتبط بأحد، فالمعبود هو الله والباقي هو الله، والرسل إنما يدلّون على الله ويرشدون الناس إلى طريق الله -سبحانه وتعالى-.
مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدًا؛ وهو كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، فالتزام الكتاب والسنة طريق نجاة من الضلال والفتن والخلاف.
مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب عن الدين، وارتفع صوت الصديق حينها قائلًا: "أينقص الدين وأنا حي؟!"، وتوعد من فرَّق بين الصلاة والزكاة، وتوعد من منع عناقًا كان يؤديها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل وأنفذ بعث أسامة رغم إحاطة الأعداء وخوف الأصدقاء، وسار يتتبع خطوات صاحبه خطوة خطوة حتى استقر الأمر وقمعت الأخطار.
مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن بلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد انطلق الصحب الكرام حاملين معهم نور الوحي من كتاب وسنة ينشرونهما في الناس ويعبدون العالمين لربهم، وقيض الله لكلماته -صلى الله عليه وسلم- من جهابذة يدونونها ويمحصونها ويميزون بين أسانيدها صحيحها وضعيفها، ثم قيض لها من شرحها وفرع منها العلوم واستخرج منها ومن قبلها كتاب الله ما أضاءت به الدينا كلها.
فلم يكن موت النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عظم شأنه وعظم المصاب به النهاية، بل كان استئنافًا لحضارة إسلامية أخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان لعدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا لسعة الدنيا والآخرة.
يأتي الموت لنبصر كيف تكون النهايات، فكما قالوا: "كل حياة ترسم نهايتها"، من طالت به الحياة ورأى دورات الحياة حوله، سيرى كيف كانت نهايات الظالمين والمتجبرين، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- نصر المظلوم.
من طالت به الحياة يرى تقلب الأحوال، وكيف أن الغني صار فقيرًا والفقير صار غنيًّا، وكيف أن القوي صار ضعيفًا والضعيف صار قويًّا، وكيف قامت دول وزالت أخرى، ويرى كيف أن كل حياة ترسم نهايتها، وكيف يوفق الله -تعالى- من شاء من عباد لطاعته حتى آخر حياته، فالطريق إلى الله -سبحانه وتعالى- يسير فيه كثير، ولكن يثبت فيه مَن ثبته الله -سبحانه وتعالى-.
فمن كانت حياته دعوة إلى الله وحمل لهم الأمة ونشر لمنهج الإسلام القويم تكون نهايته بتوفيق الله على ذات الطريق مهما وهن منه البدن أو ضعفت منه القوى، وتلك خاتمة لا تشترى بالمال، وإنما بإنفاق الأعمار في العمل لدين الله، وبذل الجهد والمال والوقت في سبيله، وبابتغاء وجه الله، (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: 125).
يأتي الموت إيذانًا بأن يريح المسافر راحلته، وأن ينزع المجاهد لأمته، فقد آن موسم الحصاد وآن لذلك البدن المنهك من طول الرحيل أن يستقر، وأن ينعم بعد تلك الرحلة الشاقة التي قضاها المصلح في نشر الخير ومدافعة الشر، يأتي الموت للمصلح لتخرج روحه في روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان، وليزفه في كل سماء مقربوها -بإذن الله-، فلا كرب عليه بعد اليوم، وهذا حسن الظن بالله، فلن يضيع الله من دل عليه وهدى الناس إليه.
يأتي موت المصلحين ليكمل المسيرة من بعدهم ثمار دعوتهم ونتاج تربيتهم، ممن تربوا على أيديهم وتعلموا منهم معنى الإصلاح الشامل وتعلموا آداب العمل الجماعي وتعلموا القواعد التي تنظم العمل، قوم يخلف بعضهم بعضًا، فلا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، فبموت المصلحين ينشغل بقيتهم بسد الثغرات وإكمال المسير وبذل النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولسان حال الجميع مقولة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-: "أينقص الدين وأنا حي؟".
يأتي الموت فينقطع كريم النفس عن الخصومة، بل ويندم أصحاب المروءات إن مات أحد المصلحين وبينه مشاحنة وخصومة.
يأتي موت المصلح فيندم العاقل على أنه لم يبادر لإزالة الشحناء واستسماح من اغتاب أو بهت من الصالحين، ولكن يأبى الله إلا أن يستمر أجر المصلح حتى بعد رحيله ببقاء أثره من علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، وأيضًا كتب الله للصالحين من الأموات بقية أجر يجريه على ألسنة الأشقياء وأراذل البشر ممن يكمل في الطعن في الصالحين والنيل من أعراضهم بعد موتهم، وهذا من أغبى الناس؛ يضع على كاهله من الأوزار دون أن يحقق أدنى منفعة في دنياه، بل تلحقه مذمة الدنيا ثم استيفاء الحقوق في الآخرة.
وصل لنا الدين عبر رحلة طويلة تمتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا، وصل إلينا بمجهود المصلحين من أعلام الأمة وأئمتها ودعاتها الذين حبب الله لهم طريق الدعوة وطريق هداية الناس للخير؛ تعلموا القرآن وعلموه فكانوا خير الناس، سمعوا مقالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فوعوها فنقلوها كما سمعوها فكانوا أنضر الخلق وجوهًا، دعوا الناس إلى الله وتوحيده فكانوا أحسن الناس قولًا.
وعبر صفحات مشرقة من التاريخ سطرها المسلمون بالجهاد والصبر والبذل، وصل لنا القرآن لم ينقص حرفًا ولم يبدل حرفًا، ووصلت السنة مدونة مشروحة، أحاطها المسلمون بعلم فريد هو علم الإسناد، وسيصل الإسلام -بإذن الله- للأجيال من بعدنا، بجهود من يغرسهم الله لهذا الدين.
فاللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وارحم يا ربنا أئمة الهدى ودعاة الخير، اللهم جازهم عنا خير الجزاء، واجمعنا الله بهم في جنة الخلد إخوانًا على سرر متقابلين، واجمع قلوبنا على كتابك وعلى سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-.