كتبه/ رضا دغيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن شهر رمضان منحة كبرى، ونعمة عظمى من المنان -سبحانه و-تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18)، فلا يليق بعاقل أبدًا أن يفرط فيه أو يغفل عن لحظة منه، أو تهبط همته فيه عن طلب المعالي؛ ولذلك كانت هذه الكلمات بعنوان: "لماذا نفرط في رمضان؟".
اعلم -وفقني الله وإياك-: أن لشهر رمضان فضائل عظيمة وخصائص جليلة، ومناقب جميلة مبثوثة في دواوين الذكر المطهر، ولسنا في صدد ذكرها وعدها، وإنما نتناول في هذا المقال أسباب التفريط والغبن في هذا الموسم العظيم والسبق الكبير حتى مع العلم والمعرفة، وهذا أوان الشروع في المقصود.
فالتفريط معناه: التضييع والتقصير؛ يقال: فرط في الأمر أي: قصَّر فيه وضيعه حتى فات منه، قال -تعالى-: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) (الأنعام: 31)، أي: يقولون: يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها!
وللتفريط في رمضان دافعات، ولسبل الغفلة والغبن فيه أمارات وعلامات؛ من أهمها:
ضعف البناء الإيماني في القلب وتصدعه، واندثار كثير من معالمه؛ حتى عاد ذلك على بصيرة القلب -والتي هي كالبصر للعين- بالضعف الشديد عن رؤية كثير من مشاهد الإيمان ومعاني الآخرة الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، والتي أمر الله -تعالى- بتدبرها وخاصة الإيمان باليوم الآخر.
وهذا فرق واضح جدًّا بيننا وبين الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فإن تصور أمور الآخرة ومشاهدها، ورؤية ذلك بعين القلب من أعظم المحركات إلى الجد والنشاط في عبادة الله -عز وجل- وطاعته؛ فتصور لحظات الموت والسكرات، ونزول الملائكة والبشرى من الله؛ إما بالرضى أو الأخرى عياذًا بالرحمن، وتصور القبر وظلمته، وسؤال الملكين، والبعث والنشور، وتطاير الصحف، وأخذ الكتب باليمين أو بالأخرى -عياذًا بالله-، وازدحام الخلائق حفاة عراة غرلًا، وانشغال كل امرئ بنفسه وجثو الأمم على ركبها، ونصب الصراط على ظهراني جهنم، وزفرات النار وتغيظها حنقًا على المجرمين والمعاندين، وسواد وجوه المجرمين وحقارتهم وضياعهم وخسارتهم لكل شيء في هذا اليوم العظيم الرهيب، وغير ذلك من مشاهد اليوم الآخر من أعظم الحادي والمحرك للاجتهاد في طاعة الله وعدم التضييع والتفريط.
وكذلك تصور فرص الفوز وعظيم الفلاح لمَن وفق في رمضان لهو أيضًا من أعظم الحادي والمحرك للقلب والجوارح لبذل الجهد وإعمار أيام رمضان بالقرب وطلب الغفران.
وإليك مثالًا واحدًا:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ لله -تَعَالَى- عُتَقاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ -يعني في رمضان- لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ) (رواه أحمد والبزار، وقال الألباني: "صحيح لغيره").
فإذا تصورت نار الدنيا وهي تصهر الحديد، ثم تصورت نار الآخرة وهي تَزيدُ في قوَّة حَرارتِها عن حَرارةِ نارِ الدُّنيا بتِسعةٍ وستِّينَ جُزءًا، كلُّ جُزءٍ منها يُعادِلُ حَرارةَ نارِ الدُّنيا كلِّها؛ فكيف تفعل باللحم والعظم مع مَن لا يموت فيها ولا يحيى؟! وكذا تفكر في مائها الذي هو كالمهل يشوي الوجوه وزقومها الذي يغلي في البطون كغلي الحميم، وغير ذلك من العذاب الجسدي الذي لا يطيقه بشر قط، مع العذاب النفسي والمعنوي العظيم، وأعظمه: أنه خسر الله الرحيم -جل جلاله-؛ قال الله -تعالى-: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: 15)، (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون: 108)، فيخسر هذا الإنسان النفس والأهل والمال والولد، وكل شيء على الإطلاق -عياذا بالله الرحيم- من ذلك.
وإذا تصورت نارًا أخبر الله -جل جلاله- أن مَن نَجَى منها فقد فاز: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) (آل عمران: 185)؛ فتصور هذه النار أنت في فرصة عظيمة للنجاة منها في كل يوم وليلة من شهر رمضان.
وإذا تصورت أيضًا أن سعادة الدنيا والآخرة يمكن أن تحصلها في شهر رمضان، نعم! فلكل مسلم دعوة مستجابة في كل يوم وليلة من رمضان.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.