كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما أكثر آلام المسلمين في المشارق والمغارب!
آلام مِن دماء تسفك، وأعراض تُنتهك، وأرض تُسلب!
بلاد تؤخذ كان يعلو فيها الحق بإذن الله -سبحانه وتعالى-؛ فإذا بها يعلو صوت الباطل والشرك والكفر -والعياذ بالله-!
هذه الآلام الكثيرة كانت -ولا تزال- عبْر التاريخ موجودة؛ إنما نذكر بعضها ونستحضر باقيها حتى نؤدي شيئًا مِن النصح للمسلمين؛ فإن مَن لم يشعر بآلام المسلمين، ولم يستحضر ما هم فيه مِن الهم والكرب والحزن والبلاء، فإنه يحكم على نفسه بالانفصال عن ذلك الجسد، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ). قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم).
ومِن النصيحة للمسلمين: أن تتألم لآلامهم، وأن تفرح لأفراحهم، وأن تهتم لهمومهم؛ ألأنك تبيت في بيتك مع أهلك وأولادك مطمئنًا -أو هكذا تظن- تَنسى آلام المبعدين الغرباء؟ وتنسى آلام المحرومين الجوعى والعرايا؟ وتنسى آلام المشردين الذين أُخرجوا مِن ديارهم بغير حق، وأُخِذوا بعيدًا عن أهليهم وأحبتهم؟!
إن ذلك ليقتضي منا -بلا شك- على الأقل إذا عجزنا أن نمد لهم يدًا بالمساعدة، ألا تكون قلوبنا جامدة قاسية عن الشعور بآلامهم؛ علها تتحرك في صدقٍ بالدعاء لهم وطلب النجاة لهم من الله -عز وجل-، المؤمن المهيمن -سبحانه وتعالى-.
لذلك نتكلم في هذا الأمر أولًا، ثم إننا نتكلم فيه لأمور أخرى وفوائد عديدة، منها:
أن نوقن أن الله -سبحانه وتعالى- هو العليم الحكيم، فالله -تعالى- ما قدر هذه الآلام إلا لحكم وغايات محمودة، فهو العزيز الحميد -تبارك وتعالى-، ألم تسمع قول الله -تعالى-: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج:8)، فهو -سبحانه- العزيز رغم أن أولياءه قد قتلوا، وهو -سبحانه وتعالى- الذي قدر ذلك عليهم، وهو -سبحانه- مستحق للحمد على ذلك، فله الحمد على كل حال.
وهذه الحكم والغايات المحمودة مِن تقدير البلايا والمحن، تقتضي منا أن نسعى في تحصيل هذه الغايات؛ لأنها إذا حصلت زالت البلايا والمحن، فإن الله -عز وجل- ما قدر هذه الآلام على المسلمين إلا للخير الذي يريده ويحبه -سبحانه وتعالى-، وهكذا سنته -عز وجل- في كل ما يقدر من الأمور المكروهة التي لا يحبها ولا يرضاها، فالله لا يحب الظالمين، والله لا يحب الفساد والله يكره مساءة المؤمن، ألم تسمع لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري)، فالله يكره مساءة المؤمنين، ومع ذلك قدر عليهم ما يكرهون ليجعل الله في ذلك خيرًا كثيرًا، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
فنحمد الله أولًا رغم الآلام، بل نحمده على الآلام، -سبحانه وتعالى- له الحمد على كل حال، وهو -سبحانه وتعالى- الحميد الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وشهودنا لهذه الحِكَم، وشهودنا لاسمه الحكيم -سبحانه وتعالى-، ولاسمه العليم -عز وجل- من أعظم النعم والغايات المحمودة؛ فهذه البلايا والمحن لها حكم عظيمة لمصلحتنا، فقد قدَّر الله مداولة الأيام بين الناس لنؤمن، أي: ليقع منا الإيمان، قال الله -عز وجل-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 139)، فهذه أول الحكم: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) لكي نؤمن.
والإيمان قول وعمل، فقدَّر الله -عز وجل- سنة المدافعة بين الناس صلاحًا للأرض وأهلها، كما قال --عز وجل-: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)؛ وذلك أن الإيمان بدون مواجهة مع الكفر والطغيان، والظلم والباطل، يضعف في نفوس الناس تدريجيًّا، وهذا أمر ملحوظ تجده عند المترفين، وتجده عند من لا قضية لهم، ولا يستشعرون أنهم في المعركة من أجل الإسلام، تجد إيمانهم يضمحل تدريجيًّا، ولا يجد نفسه مستشعرًا حين يقرأ القرآن تلك المعاني العظيمة التي وقعت في قلوب الصحابة يوم نزلت هذه الآيات، فإذا حصلت زالت الآلام والمحن، فالله قدر هذه الآلام والمحن لكي نؤمن، ولكي نصدق مع الله -عز وجل-، أي: لكي نكون صادقين في قولنا: "آمنا"، كما قال -تعالى-: (الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 1-3).
ونحن نعلم أنه يعلمهم قبل وجودهم، ويعلم كل شيء قبل خلق هذا الوجود كله، فصفة العلم صفة أزلية من صفات الله -تعالى-، وهو العلم الأول السابق قبل وجود المخلوقات، قال -تعالى-: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب: 40)، ولم يزل -سبحانه وتعالى- كذلك، قال -تعالى-: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 29)، ومعنى قوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، أي: علمًا يحاسبهم عليه، أي: ليعلمه علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، وليعلمه قد وقع منهم بعد أن علمه سيقع، فإن الله يحب أن يرى منا الصدق، كما قال ابن عباس: "ليرى الذين آمنوا" أو: "ليرى الذين صدقوا"، ونحو ذلك، والله أعلم.
فالله يحب منا الصدق، والصدق ليس في الكلام فقط، وإنما نزلت الآيات: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23)، في مثل أنس بن النضر -رضي الله عنه- وفي إخوانه الذين صدقوا بالعمل بعد أن صدقوا بالقول، فالله يحب أن يوجد من المؤمنين من يبذل نفسه وماله، وكل شيء في سبيله -عز وجل- فيستشهد، ويحب هذه الدماء التي تراق في سبيله؛ لأنها أريقت من أصحابها حبًّا له -عز وجل- ونصرة لدينه، والله يتقبلها منهم، ويبعثهم يوم القيامة، اللون لون الدم، والريح ريح المسك؛ لذلك قدَّر أن يتسلَّط الكفار على المسلمين، ليستشهد مَن يستشهد، ولينفق مَن ينفق، وليظهر المنافقون، وكذلك البخلاء الجبناء، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران: 167).