كتبه/ محمد إسماعيل المقدم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن التربيةَ في الإسلام لها منهج رباني المصدر، وقوامه تعبيد الإنسان لله -تبارك وتعالى- حق عبادته، وعمارة الأرض وخلافتها، وَفْق ما ارتضاه اللهُ لعباده.
وهي أيضًا تؤصِّل العقيدة في النفوس، وترسِّخ الإيمان في القلوب، وتعظِّم شرعَ الله -عز وجل- عند عباده، وهي تشمل ميادين الحياة الدنيا، وكذلك الآخرة في توازن واعتدال؛ إلا أن الأمةَ الإسلامية باتت تتطفل على غيرها كمصادر للتربية، وانهمكت في محاكاة الأمم الكافرة، فبقدر ما نَسَخَتْ منها بقدر ما حصل الخلل الفكري والمنهجي التربوي.
فأضحت التربية عديمة الجذور، تنزوي سريعًا كبناءٍ على غير أساس، مقام على أرضية رخوة يوشك أن ينهار؛ وذلك لأن المناهج التربوية الغربية مبناها الفَصْل بين الكون وخالقه، الذي قال -سبحانه وتعالى-: "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ".
أمَّا أبدع ما في المنهجية التربوية الإسلامية: فهو انطلاقها مِن حَيِّز العبادة؛ فمنطلق هذا المنهج هو التعبُّد لله، وليس مجرد فكرة نظرية، وبذلك يكون الإنسان مُطَالَبا بأداء هذه العملية التربوية على أكمل وجهٍ كما بيَّنها القرآن والسُّنَّة.
كما أنه منهج يجعل مِن المربي حَجَر الزاوية، والمحرِّك الأساسي للعملية التربوية؛ ويلزمه بامتلاك مَلَكة خاصة في التعامل مع مَن يربيهم، يدرك بها خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، والتي سيُسأل عنها يوم القيامة.
ومما يُنصَح به المربي: تجنُّب العقاب البدني، وإن استخدمه فبالرفق، وللتربية والتوجيه؛ فالعقاب البدني الأهوج، والكلمات المهينة لها أثر نفسي قد لا يزول مَدَى العمر، بل يُنصح بالرفق في المعاملة، فإن المربي لا يندم أبدًا على سلوك الرفق بخلاف ما إذا سلك طريقًا آخر؛ فقد يندم بسبب عواقبه السيئة!
ولا يمكن أن تتم أي تربية بغير الترغيب والترهيب، أو الثواب والعقاب، لكن بعض الناس يسيء فهمَ بعض النصوص، خاصة مثل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "واضربوهم عليها لعشر سنين"؛ فنجد الضرب منذ الثلاث سنوات والأربع سنوات، وعلى أمور في غاية البساطة، فإذا كانت الصلاة -وهي أهم أمر في الدين بعد التوحيد- لا يُضرَب عليها حتى سنَّ العاشرة؛ فما بالك بما دونها؟! وما بالك بدون ذلك السنِّ؟!
ولنتأمل: ردَّ فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما وَجَدَه مِن سفهاء الطائف، وعبيدهم وغلمانهم مِن الأذى والتهكم، والطرد، والحصى والحجارة، حتى دميت عقباه وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على الأرض، فأرسل الله له جبريل ومعه ملك الجبال، فناداه جبريل وقال: "إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد! إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: بل أرجو أن يُخرج اللهُ مِن أصلابهم مَن يعبد اللهَ وحده، ولا يُشرك به شيئًا" (متفق عليه).
والسؤال هنا: ألا توجد القدرة على الانتقام؟
بَلَى، حتى إنه ضامنٌ أن اللهَ -سبحانه وتعالى- راضٍ عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل ومَلَك الجبال معه، بينما بعض الناس ينتقِم شفاءً لغليله، ويعرف أن الانتقامَ محرمٌ عليه، لكن هنا هو مطمئن تمامًا أنه لا وزر عليه أبدًا في الانتقام، وقادر على الانتقام، وأمره لا يرد، فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تمامًا، وهناك حاجة موجودة إلى ردِّ الاعتبار وإلى شفاء الصدر من الكفار، ولكن الرحمة والشفقة في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس عمومًا، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود!
فبلا شك أن الصغارَ هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر مِن الدَّافع للانتقام؛ تتشفى مِن مَن؟! مِن ابنك الذي هو فلذة كبدك، تتشفى فيه وتضره أبلغ الضرر؟!
فالقفز مِن التدرُّج المعروف في العملية التربوية إلى الضرب والعنف هو اعتراف بالفشل؛ فما بال بعض الناس يقصدون مباشرة إلى العنف والشِدَّة مع ما لذلك مِن آثارٍ جسيمةٍ وخطيرةٍ، تنعكس على الأسرة والأبناء؟!
فالشاهد: أن العقابَ عند بعضهم يتحول مِن عملية تربوية إلى عملية تشفٍّ، فصدره يغلي مِن خطأ ارتكبه هذا الطفل، فيفزع إلى الضرب، وهو في غاية العصبية؛ ليشفي غليله، وليس للتربية؛ فيظل يضرب إلى أن تهدأ ناره؛ فيُطلِق هذه الشحنة في جسد هذا الطفل بالضرب!
ومِن أسوأ آثار العنف: ما نشاهده من هروب الطلاب من المدرسة أو التغيُّب عنها.
والأخطر: أنه يؤدي إلى صدمات نفسية تُسبب لهم عُقَدًا في حياتهم، وأيضًا: إحساس الطفل بالذل والهوان والحقارة، وتعرُّضه لاضطرابٍ الشخصية الخطير!
فالعقوبة البدنية قد تضر الطالب، وتنتج بُغضَ الطالب لمعلِمه، ويظهر ذلك في صورة مقاومة التعليم، وكراهية المدرسة، وبالتالي تنهدم علاقة الثقة والمحبة المرجوة بين المعلِّم وطلابه، فالعقاب يُشْعِر بفقدان الأمن.
والجو المشحون بالانفعال والتوتر: له أسوأ الأثر على الشخصية في سنواتِ الطفولة والمراهقة؛ لأن هذه المرحلة في غاية الحساسية، فهذه المرحلة -ما قبل سنِّ الثامنة عشرة- هي التي يُوضَع فيها أساس الشخصية، وبعدها يصعب جدًّا أيُّ تعديل؛ إلا أن يشاء الله.