كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
بيت من الشعر لابد أن يكون قد طرق سمعك من قبل، حتى وإن لم تكن من المهتمين بالشعر؛ لشهرته في المناهج الدراسية في المرحلة الثانوية حيث يمثل الهجاء المتبادل بين جرير والفرزدق أحد أهم موضوعاتها.
وإذا كانت مقولة "أجمل الشعر أكذبه" صادقة بصفة عامة، فإنها تكون أصدق ما تكون في باب الهجاء، كما ترى في هذا البيت الذي يمثل أحد أشهر أبيات الهجاء، فالسامع فضلاً عن القائل يعرف أنه ما كان ثـَمَّ سمٌ قاتلٌ حسياً ولا معنوياً، لأن الشعراء الذين هجاهم ظلوا أحياء بعدها حسياً ومعنوياً، وبادلوه هجاءً بهجاء، وهكذا تستمر العجلة كل يبالغ في مدح نفسه وذم مخالفه، وكلما كان أكذب في حديثه -شريطة أن يحسن التصوير- كلما عُدَّ بذلك منتصراً.
وغني عن الذكر حرمة هذه الأفعال ومخالفتها لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)(الحجرات:11).
وقوله -تعالى-: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)(الحجرات:11)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم.
ولكن في أوقات ضعف الأمة وميلها إلى البطالة والترف تقفز هذه العادات الجاهلية لتحتل مساحة كبيرة من اهتمامات كثير من المسلمين، ولذلك تجد أن فن الهجاء الذي انحسر في شعر الصدر الأول عاد إلى الطفو على السطح متزامناً مع علم الكلام، حيث يشتركان في كونهما معارك داخلية تشق الصف المسلم، وتلهيه عن التصدي للأعداء الحقيقيين، ولكن الشيطان استطاع أن يقدِّم لكل صنف من الناس الطعم المناسب، فأهل العقول يشتغلون بالمعارك المنطقية، وأهل العواطف ينشغلون بالمعارك الشعرية.
وقد أعرض علماء السلف عن هذين النوعين من المعارك، وذموا ذلك التنابز بين الشعراء، وذاك الجدل بين المتكلمين، إلا أن إعراضهم عن تنابز الشعراء بقي موقفاً ثابتاً، بينما اضطروا إلى الدخول في معترك الجدل مع المخالفين؛ درءاً لمفسدة تمويههم الحق بالباطل.
فعل ذلك الشافعي مع منكري حجية السنة، ثم فعله الإمام أحمد بن حنبل مع المعتزلة، ثم توسع فيه ابن تيمية وتلاميذه لشيوع المدارس الكلامية في زمانهم.
فجاءت المناظرات العظيمة في مسائل الدين الكبار مع أئمة البدعة والتي التزم فيها العلماء رد الحجة بالحجة، وكان غرضهم هو إظهار الحق والاستدلال عليه، وربما خالطت كلامَهم أنواع من الشدة، ولكنها لم تطغَ أبداً على الفكرة، فهذا الإمام أحمد يقول للمأمون وشيوخ الاعتزال معه: "ائتوني بآية من كتاب الله، أو حديث من حديث رسول الله أقل لكم به".
وهذا ابن تيمية يألف الفتوى الحموية الكبرى رداً على الذين سبوه وشتموه لما أفتى بقول الإمام مالك الذي لخص به منهج السلف في الاستواء، فلا تجد في كلامه إلا الحجج البينات. وها هو يناظر الجهمية، فبعد الانتهاء من حجته يكون أقصى ما يقوله: "لو أني قلت مقالتكم لكفرت، ولكنكم عندي جهال".
وأقصى ما تجد في ذلك تجده في الردود التي كتبت على هيئة نظم، وكأن الشعر يغري بذلك كنونية ابن القيم، ومع هذا ظلت كل هذه الردود معارضة الحجج بمثلها مع شيء من ذم المخالف لاسيما مع رؤوس البدعة.
بينما بقيت لغة الحوار في مسائل الخلاف السائغ راقية تُراعى فيها حرمة المخالف ومكانته كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
وربما احتد بعضهم في مسائل الخلاف كابن حزم -رحمه الله-، فأسقط ذلك رتبته عند كثير من أهل العلم.
ثم جاء العصر الحديث وخرج علينا أفراخ المستشرقين ببحوث ظاهرها "الأدب" وباطنها "الطعن" في عقيدة المسلمين مثل قضية "الشعر الجاهلي" التي أثارها طه حسين، وفيها ما فيها من الغض من بلاغة القرآن، بل والطعن في كونه وحياً، ولما كانت المسألة ذات شقين: أحدهما أدبي والآخر عقدي، فكانت معظم الردود من الأدباء ذوي التوجه الإسلامي كمصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- مزيجاً من المناظرة والهجاء.
وكان غرض الرافعي وغيره من هجاء دكتور الأدب أن يبينوا عجزه عن مجاراتهم في الهجاء؛ ليثبتوا أنه من أبعد الناس عن أدب العرب، وأنه أعجمي العقل والقلب.
حتى أن الرافعي -رحمه الله- كان يسمي ما ينقله الدكتور من تراث العربية "ترجمة" أي من العربية إلى لغة الدكتور الخاصة، ومن ثَمَّ كان يتوقف كثيراً عند أخطاء "الترجمة" التي أثرت على فهم الدكتور للأدب العربي، ولم يكن لفظ "الترجمة" هو السهم الوحيد في جعبة هجاء الرافعي، بل كان إلى جواره كنية "الشيخ أبو مرجريت"، وكان معه لقب "طفل الجامعة المدلل"، ولسبب اختياره لكل منها قصة ليس هذا مجال إيرادها.
الحاصل أن هذا الهجاء على الأقل من وجهة نظر أصحابه هو جزء لا يتجزأ من المناظرة الفكرية، حيث أن الخصم الذي جاء يردد أباطيل المستشرقين؛ جاء يرددها من على كرسي الجامعة الأولى متسلحاً بلقب يسحر العقول ويأخذ بالأبصار -"عميد الأدب العربي"-، فأراد الرافعي أن يثبت عجزه عن الدفاع عن نفسه شعراً أو نثراً، فليكن حينئذ عميد الأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو أي أدب آخر غير العربي.
ومن العرض السابق يتبين أن "الهجاء" فرع من فروع الأدب ومعارضاته، وأن المناقشات والمناظرات المنهجية لا علاقة لها بالهجاء، وإنما هي حجج وبراهين، وإن وُجد فيها هجاء فكالملح في الطعام، وتكون لمن بالغ في غيِّه وإعراضه.
وبناء عليه يمكنك أن تدرك مقدار الدهشة التي تتملك السامع لألفاظ بعض دعاة زماننا، وكثير منهم -وللأسف- ينتمي إلى السلفية حينما لا تجد له هماً إلا سب الناس وشتمهم، وتشقيق الكلام، ونحت الألفاظ، وإبداع الاستعارات في السخرية والاستهزاء ممن خالفهم، تحت مسمى البراءة من أهل البدع، مع أن الله -تعالى- يقول لموسى وهارون -عليهما السلام- لما أرسلهما إلى شر أهل زمانه، وربما شر بني البشر على الإطلاق فرعون -عليه لعنة الله-، قال لهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(طـه:44).
ثم أي نصيحة للمبتدع أو لأتباعه أو لغيرهم بكلام غالبه سب وشتم، وليس فيه من الحجج إلا النزر اليسير؟!! ولذلك فنحن ننادي على هؤلاء الأفاضل بقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)(الحجرات:11).
وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم.