الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذا جزء من حوار د. "أبو بكر القاضي" مع مجلة "الفرقان" الكويتية.
مجلة الفرقان:
قوة الأمة لا تكتمل إلا بتوافر جيل من الشباب ناضج يسهم في بنائها ونهضتها، فالشباب هم عماد الأمة وقلبها النابض، وهم فقط مَن سيرقى بالأمة، أو يهوي بها، والناظر إلى واقع الأمة يجد -والحمد لله- أنها لا تخلو من الشباب الأخيار الذين يبنون ولا يهدمون، ومن الإجحاف الحكم على الجميع بالبطالة الفكرية والعملية؛ فكثير من الشباب -بحمد الله- لا يزالون على خير عظيم وكبير، بالرغم من وجود فئة منهم غارقة في الملهيات، راكضة خلف المتغيرات! لا يدركون قيمة وجودهم في الحياة أو متجاهلين لها، واهتماماتهم سطحية، وأحلامهم خيالية، ومحاكاتهم غربية، ويعيشون بلا هوية.
وحول هذا الموضوع وحول آمال الشباب وآلامهم تلتقي الفرقان مع د. أبو بكر القاضي، أحد الدعاة المهتمين بقطاع الشباب، وله الكثير من المؤلفات واللقاءات المصورة في هذا الاتجاه.
- برأيك ما هموم الشباب المسلم المعاصر وقضاياهم ومشكلاتهم؟ وهل اختلف ذلك في زماننا عن ذي قبل؟
لا شك أن الشباب هم عماد الأمم، وأهم شريحة من شرائحها، يُنتظر منها أسباب النهوض والتقدم والرقي، وتقاس حيوية الأمم والشعوب بمدى جودة شبابها عقديًّا وسلوكيًّا، وبذلًا وتضحية لرسالة هذه الأمة وقضيتها في الحياة.
وأمة الإسلام أمة عظيمة حكمت الأرض أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وأقامت حضارة لم تتكرر على مرِّ التاريخ جمعت بين العقل والروح والدين والخلق والعلم والإيمان وكان موقع الشباب متمركزًا محوريًّا في هذه الأمة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخراجه أبطال الإسلام من دار الأرقم، وكلهم كانوا شبابًا.
ولا شك أن مثل هذه الأهمية لهذه الشريحة لا بد أن يقابلها استهداف من العدو؛ استهداف فكري وثقافي، وعقدي وإيماني وسلوكي؛ حتى تغرق في غيبوبة عن قضايا الإسلام والمسلمين، وهذا الأمر لا شك أنه حلقات متواصلة من الصراع عبر العصور، ولكنه تجلى بصورةٍ أوضح بعد فشل الحملات الصليبية العسكرية على العالم الإسلامي، وارتدادها على أعقابها خاسرة تجر أذيال الخيبة، فتحولت دفة الصراع من حلبة القتال العسكري إلى حلبة العقول والأفكار، وأصبح العدو يجنِّد جيوشًا لحرب الشبهات والشهوات من خلال التبشير والتنصير والاستشراق، والتشكيك في التراث، وإعادة قراءة تراث الأمة بشكلٍ انهزامي أو حداثي يتبع فيه الغرب متخليًا عن كرامته وعزته واستقلاليته، وواكب هذا في الغرب ثورات وقفزة تقنية وحضارية في بعض مجالات الدنيا، وإن كان لا زال متعفنًا في جانب الدين والروح والخلق، وزامن هذا غرق أمة الإسلام في البدعة والخرافة والدروشة، والصراع على السلطة وخروج أذناب للعدو تربوا في أحضانه منبهرين بنقلته التقنية المادية، فهنا حدث انحراف هائل في هوية الأمة، بل مسخ لها على الحقيقة حتى تسنى لهم إسقاط الخلافة العثمانية، الجسد العملاق المثخن بالجراح وإعلان الدولة العلمانية، وتقسيم تركة هذه الخلافة باتفاقيات سايكس بيكو إلى دويلات، وإنشاء وطن لليهود كخنجرٍ في صدر الأمة الإسلامية.
تم تحريف هذا التاريخ وكتابة تاريخ مختلف يعبِّر عن إرادة الغرب في مسخ العقول وإزاحة الشريعة وإنشاء جيل كامل منهزم نفسيًّا يشعر بالبون الشاسع بينه وبين الحضارة الغربية، ويشعر بالخجل والخزي في الانتماء لهذه الأمة، ويبحث عن بدائل أيدولوجية: كالعلمانية والليبرالية والديمقراطية، والوجودية والداروينية والفرويدية، والاشتراكية والرأسمالية، كنظم عالمية اقتصادية تلهث وراء الوجود والنجاح والاستمرار، مع الإغراق في الشهوات والإباحية، وصناعة سينما الجنس والعنف والإجرام، ودراما وأدب؛ لتسميم الأفكار وتزييف التاريخ، وإلهاء هذه الشريحة وتدميرها في الحقيقة فكريًّا ونفسيًّا باللهو واللعب، وغير ذلك.
هذا التسلسل في أشكال وألوان الحرب يبيِّن مدى الشراسة لهذه المعركة، ويعطينا تصورًا عن تغير البنية الفكرية والثقافية والنفسية للشباب من عصر السلف إلى الآن؛ فقد تم فصلهم فكريًّا وعقديًّا وسلوكيًّا عن أمتهم الإسلامية بالقوميات ثم عن عربيتهم بالوطنيات ثم عن بلدهم بالليبرالية التي تؤدي للأنانية والاستهلاكية، حتى أصبح الشاب يعيش لنفسه لشهواته ورغباته فقط فارغًا من القيم والرسالة والقضية.
ومع ثورة الاتصالات والمعلومات تم تجديف الشبهات من خلال وسائل التواصل والفضائيات المفتوحة باسم العولمة والانفتاح الثقافي زيادة عما سبق، فاخترق عقل الشاب الفارغ من التحصين، وشككه في البدهيات والمسَلَّمات حتى استعرت موجة الإلحاد المعاصر متزامنة مع الموجة الإباحية؛ ولذلك اختلفت هموم الشباب في زمننا الحاضر مع عصر السماوات المفتوحة والانفتاح المعلوماتي والثقافي ووسائل التواصل الاجتماعي والكرة، والتحزبات السياسية والأيدلوجية ما بين شباب منغمس في حياته يرنو لبناء نفسه بعيدًا عن أي قيمة، أو شباب مستهلك في أنشطة لهو ولعب، أو انشطة أيديولوجية بعيدًا عن حقيقة التدين وخدمة الإسلام، ونتج عن ذلك أن أصبحت مشاكلهم مختلفة، ما يشغل بالهم هو تحقيق الذات بالعمل والدخل، والعلاقة العاطفية والجنس، ومتابعة الأحدث في الموضات: كأزياء أو حتى نكاتٍ وكلمات ولزمات للحديث.
وقد يصل الأمر إلى لعبة كـ pub g أو المزرعة السعيدة، أو فيلم: كالجوكر، أو مسلسل: كـ game of thrones -لعبة صراع العروش- فيكون هذا هو الشغل الشاغل، ومصدر الإلهام لإدارة الحياة والنفس والوقت، وسنبيِّن هذا بعد قليلٍ.
- ما دور الشاب المسلم والفتاة المسلمة في الحياة؟ وما منزلة الشباب في الإسلام ونظرته لهم؟ وما الآمال المعلقة عليهم؟
الدور الذي خلقنا الله من أجله والذي لا بد أن يذكَّر به الشباب دائمًا هو تحقيق العبودية لله، وليس تعمير الأرض، وإنما هذا التعمير مقتضى العبودية أن يكون باسم الله، ولكي تكون كلمة الله هي العليا، أي: شرعه حاكمًا للأرض؛ هذا هو حقيقة عمرانها، وليس التعمير المجرد والتطاول في البنيان والصناعة والزراعة والاقتصاد -وإن كان يصب في دفع الناس للباطل- يسمَّى تعميرًا، بل هو تدمير في الحقيقة!
ومرحلة الشباب -وأنا أسميها: مرحلة اكتمال القمر- التي هي مرحلة القوة والعنفوان، والنشاط والحماسة والحيوية، تتوجب فيها العبودية بكمالها وواجباتها ومستحباتها حسب الإمكانيات والمواهب؛ ولذلك ثبت في السنة النبوية الشريفة أن العبد لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل سؤالين: سؤال عن عمره كافة، وسؤال عن مرحلة الشباب خاصة، وهذا يدلك على ما ينتظره الشرع والدين مِن هذا المكلَّف المؤهل لكي يخدم دينه وقضيته ورسالته، ويعمر الدنيا باسم الله، ويعبِّد الخلق للحق، ويربط بين السماء والأرض.
فالشاب المسلم لا بد وأن يحمل في جنبات صدره أمل وبشرى عودة الخلافة كهدفٍ إستراتيجي، ويحمل أهدافًا مرحلية لذلك مِن نشر دعوة الحق (الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة) بعد تعلمها مسألة مسألة، والعمل بها، والتخلق بأخلاق القرآن، وذلك بكل السبل المتاحة، ومنها: العفة، وإنشاء بيت مسلم، وتربية أولاد صالحين، وتربية نفسه لكي يصلح لهذه الأدوار.
وكذا الفتاة المسلمة لها دور بارز في إحياء ما اندرس من قيم العفة والحجاب، والحشمة والوقار، والأمانة، والبُعد عن الاختلاط المحرَّم، والتعلم والتعليم، وإنشاء بيت مسلم كنواة جديدة في إصلاح المجتمعات.
فالشاب والشابة يرتقيان من مرتبة الصلاح لمرتبة الإصلاح في خطى ثابتة جادة مستقيمة، بالعلم والعمل والدعوة إلى الله.
- في ظل الصحوة الإسلامية المعاصرة: كيف ترى -وأنت قريب من قطاع الشباب- حال الشباب والفتيات ومدى إقبالهم على الالتزام الصحيح الذي يكفل لهم الاستقامة على دين الله تعالى والفلاح في الدنيا والآخرة؟
الشباب عطشى في الحقيقة للدين والالتزام، عطشى للخروج من الحيرة وسردية الاضطرابات النفسية والمشاعرية والوجودية، والخروج من العلاقات المؤذية مع مَن حولهم في جيلهم ومَن سبقهم، عطشى للخروج مِن ظلمات الشبهات والشهوات إلى نور المعرفة واليقين، وصلاح البال والحال، واطمئنان القلب؛ بالتوجه لإلههم الحق، والتزامهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ عطشى لإشباع حاجاتهم الفكرية والنفسية والروحية، بالاتصال بالوحي (قرآنا وسنة)، وسد ذلك الفراغ الهائل في الوقت والذهن والقلب بالقضية والغاية والرسالة التي مِن أجلها وُجدوا عامة في هذا الوجود، ومن أجلها وجدوا بشكلٍ خاصٍّ في هذه المرحلة من تاريخ الأمة؛ ذلك الزمن الاستثنائي؛ زمن الغربة، واستعار موجة الشهوات والشبهات.
فالشباب عطشى للطرح المتوازن لدينهم وشريعتهم بين الرغبة والرهبة في المواعظ، وبين الطرح العلمي الموضوعي في جانب العقيدة والفكر والثقافة، وهم في حاجة للتحصن والتترس بترس العلم النافع، وهم متشوفون لذلك، باحثون عنه، مكنون داخلهم -بالفطرة- طاقة هائلة تجاهه.
لكن الصوت الذي يصلهم هو صوت العولمة المشوش لأسئلة الفطرة وإجابات الدين، أو البدع التي يُراد لها قيادة دفة التدين؛ لأنها تثمر تدينًا أعوج مدجنًا، بلا أي صدامٍ مع حضارة الغرب المتعفنة!
فالشباب في الحقيقة متربص ومتأهب لنداء الفطرة الداخلي للبناء، رغم كل معاول الهدم؛ بناء أنفسهم وإخوانهم وأسرهم وأمتهم، بناء ثقتهم بأنفسهم، وبناء وعي متحصن ومنفتح يتحدى العالم بقوة عقيدته وثقافته وتراثه، ورؤيته الإستراتيجية لمستقبله ومستقبل أوطانه وأمته.
يوجد فيهم سيل عارم من الطاقة، لو وجه التوجيه السليم لانقلبت موازين العالم، وتحركت الدعوة في المشارق والمغارب، وقامت الخلافة على منهاج النبوة من جديدٍ، لكن الصوت العالي الذي يصلهم -كما ذكرنا- هو ذاك الصوت المشوّش، والصورة المشوهة، والبريق الزائف، والتاريخ المزور، والمعالجة السياسية الميكيافيلية، وشبق الشهوة الذي تتمحور حوله معظم الأدبيات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات، حتى الأفلام الوثائقية واتجاهات معالجة الأحداث السياسية!
- ما أسباب حالة الفراغ الفكري وتدني المستوى العلمي التي أصبحت تلازم الكثير من الشباب اليوم؟
البُعد عن المصادر الحقيقية لبعث الأمة وإلهامها دورها وقيادتها وريادتها للعالم، وهي: القرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله عنهم، وقدوات السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وتابعهيم من الأئمة الأعلام؛ هو كلمة السر في حالة الفراغ والتقهقر الفكري والثقافي التي يحياها الشباب الآن.
فأصبحت هناك مصادر تلمَّع للشاب يستقي منها معارفه وإن كانت مشوهة، قدوات وإن كانت رويبضات يستلهم منهم النجاح بتسميتهم رموزًا ونجومًا وكواكب، وأصحاب سعادة، وأرقامًا متصدرة في المال والإعلام والشهرة.
ومع الأحداث الأخيرة التي عصفت بالعالم العربي من فتنٍ أدَّت إلى اهتزاز صورة الرموز والعلماء والدعاة؛ بسبب تشويه الإعلام مستغلًا الأحداث السياسية، والسكر الثوري الذي عصف بالشعوب حتى على البدهيات والمسَلَّمات، وأصول التراث، وتاريخ هذه الأمة العظيمة؛ مرَّ الشباب بهزةٍ ثقافيةٍ عنيفةٍ على كل مستويات المدركات والمعارف، والعقائد والأفكار والقيم، مع عدم وجود رصيدٍ كافٍ لامتصاص كل هذه الصدمات المتلاحقة من التشبع بالتراث؛ دراسة وتأصيلًا وتحصينًا، فإن عمر الصحوة لا يزيد عن خمسين سنة بعد سقوط الخلافة العثمانية وبث الفكر العلماني في الشعوب، مع إزاحة الشريعة معنويًّا وواقعًا من حياة أكثر البلدان الإسلامية.
لم يكفِ رصيد التربية العلمية والفكرية والإيمانية لاستيعاب كل هذه الفتن والمستجدات والأحداث، والاختلافات المنهجية والسياسية على الساحة حتى وصل بالبعض إلى الكفر بالفكرة الإسلامية والانتماء لها، ورؤية أنها الحق والحل وإن تأخر التمكين لها، واستبد بالمسلمين الاستضعاف.
طلب العلم الحقيقي والتربية المباشرة -لا الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية- هي التي تصلح لإنتاج كوادر وأفراد يستطيعون مجابهة تلك الأمواج التي كالجبال من الفتن!