كتبه/ نور الدين عيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن لكل مقدمة نتيجة، ولكل عقيدة تأثير، وإن المتأمل في مآلات الأمور وتغير الأحوال، مِن العز إلى الذل، ومن السُّنة إلى البدعة، ومِن التمايز إلى الالتباس، يكاد يجزم بانحراف الخطى، وهذا الانحراف لا يكون وليد يومه، بل بمقدمات تثمر نتاجًا يقاطع الصراط المستقيم، فتعلو أصوات بهذا النتاج، فيصيب مسامع خاوية، فيتابعوها على انحرافاتها، ولا سبيل لعود الناس إلى خير ما كانوا عليه إلا ببيان الصراط المستقيم وحدوده، فخفض صوت منادي السنة أو كتمه، استبدال لمعالم الطريق مع أزِّ الشيطان أولياءه، فما يسع المتسنن إلا البيان قولًا، والتمسك عملًا، وإن ما يراه العبد من انحرافات في التصورات التي تثمر بدعًا في صورة عبادات يقطع بأن بيان بطلان مقدماتها أولى مِن بذل الجهد في إبطال مظهرها.
ومِن تلكم الواهيات التي وُضعت كمقدماتٍ:
المقدمة الأولى: (شيعوعة الفعل تدل على جوازه):
وبيان هذا بأن القاعدة تقول بالعكس، كما قال الإمام الطرطوشي -رحمه الله-: "شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه، كما أن كتمه لا يدل على منعه"، ثم ساق مسائل مشهورة الخلاف مع انتشارها، وإذا أردنا أن نسير بهذه المقدمة مع تلك النتيجة في زماننا قلنا بحل مقطوعات التحريم، لانتشارها وفشوها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل بروز إعلانات الفساق على بنيات الطرق مباح؟! أم أن مؤسسات الحرب على الله بالربا والميسر جائزة حلال؟! أم أن شيوع القنوات الهدامة مباحة حلال؟!
وهذا سيل من الانحراف الذي لا تُحصر صوره؛ فإن قيل: كيف تجعل الفسوق والكبائر قرينة التعبد؟
فنقول بأن البدعة ليست تعبدًا، وإن نَسَبَها صاحبها لشرع الله، بل تواترت نصوص الشريعة على الحذر منها وتعظيم خطرها، فهي من هذا الباب قرنت في الشيعوعة على غيرها بعدم مشروعيتها، ويتفرع على هذا مقدمة أخرى يبنى عليها نتائج مشابهة، وهي:
المقدمة الثانية: (هي بدعة حسنة مستحبة):
إن مصطلح البدعة في الشريعة الغراء جاء مطلقًا في الذم، وما قيده البعض بوصف الحسن كقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة هذه"، إنما هي اللغوية غير الشرعية؛ إذ إن الجمع على إمام التراويح فَعَلَه -صلى الله عليه وسلم- ثم تركه خشية فرضه، وأما بدعية الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا محدث بلا ريب، والمحدث مذموم لذاته؛ إذ أنه زيادة في الدين مردودة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه).
ولذا قال ابن الحاج -رحمه الله-: "ومِن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات: ما يفعلونه من المولد، وقد احتوى ذلك على بدع محرمات... ثم ذكر منها: استعمالهم الأغاني بآلات الطرب وحضور المردان والشباب، ورؤية النساء لهم، وما في ذلك من المفاسد.. ثم قال: فإن خلا المولد من السماع، وعمل طعامًا فقط، ودعا إليه الإخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره، فهو بدعة بنفس نيته إذ ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى بل أوجب مِن أن يزيد نيته مخالفة لما كانوا عليه".
وإشارته -رحمه الله- في علة بدعيتها، والتنفير عنها أنها زيادة مبتدعة في الدين، بيان بدعيتها في ترك السلف لها مجتمعين مع وجود المقتضي لها وهو حبه وتعظيمه -صلوات ربي وسلامه عليه-، وانتفاء المانع من الاحتفال به، وإنما أحدثه العبيديون المارقة تخفيًا وتبديلًا.
المقدمة الثالثة: (تباعد الزمان عن الوحي لا يلزم بالاتباع الحرفي):
وهذه مقدمة يكثر القول بمعناها، فعند إلزام الداعين لها بأن الصحابة فالتابعين فتابعيهم بإحسان من القرون المفضَّلة، لم يفعلوه مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، قالوا: إنه لا يلزم الاتباع الحرفي ضمنيًّا، وما شابه من الكلام. وهنا ينبغي الإشارة إلى خطورة هذه المقدمة التي هي في حقيقتها إبطال لمفهوم البدعة، وجعل المحدَث دائرًا على الأحكام التكليفية بالهوى، مبطلين قواعد نبوية كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه مسلم)، وقوله: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (رواه مسلم)، وهذه ألفاظ عموم لا مخصص لذمها مبيح، ولا مسوغ بعد ردها.
وبعضهم يسوِّغ بقياس على محدثات دنيوية؛ ليفتح الباب لبدع في الشرع، والسنة قد حكمت بأن البدعة في الدين لا في الدنيا: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا)، وإن مما ينبغي بيانه اعتبارًا واتعاظًا، زيادة الغربة واشتداد التغيير، وعواصف الهوى والضلال، فلا أمانة في ترك الناس في مهب العواصف والسيول التي تجرفهم نحو المهالك من غير دلالاتهم على نجاتهم، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور:54)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
وهذا بيان ليس بعده بيان لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21)، فتباعد الزمان مع كثرة الأهواء وقلة العاملين من العلماء، والمصلحين والأتقياء، مصيبة لا تجف لها مآق، ولا سبيل إلى إدراك الركب في سلامة إلا بركوب سفينتهم التي تركوها لنا مرساة، قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا، فإن أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- لمن أنكر فعله: "والذي نفس ابن مسعود بيده، لقد فضلتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- علمًا، أو جئتم ببدعة ظلمًا! والذي نفس ابن مسعود بيده، لئن أخذتم بآثار القوم ليسبقنكم سبقًا بعيدًا، ولئن صرتم يمينًا وشمالًا لتضلن ضلالًا بعيدًا".
فبعد الزمان عن الوحي مصاب يعظم بفوات فضيلة القرون المفضلة، فما أن تتدارك نفسك حتى تسمع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) (رواه مسلم)، أو مثل هؤلاء يناطحون الصحب والسلف الصلحاء؟! فاستمسك بغرزه -صلى الله عليه وسلم-، وقم على سنن صحبه فإنه الصراط المستقيم؛ هذا هو العزاء.
وإن شدة النكير لا تقع على المحبة والتعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا مِن أعظم الأصول، وأفضل القربات، ولكن النكير خَلْط ما هو مشروع محبوب بمحدث مبغوض؛ يتباعد به الناس، ويتخلفون به عن هدايتهم وعزهم.
والله أسأل أن يرزقنا الاستقامة على السُّنة، وحب أهلها، وأن يجمعنا بحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- في أعالي الجنان.
والحمد لله رب العالمين.