كتبه/ أحمد حسين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
أولًا: حكم اقتناء الكلاب:
روى البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا تَمَاثِيلُ) وروى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: («مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ ضَارٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ)، وفي رواية له: (إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ)، وفي رواية: (إِلَّا كَلْبَ ضَارِيَةٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ)، وفي رواية: (إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ)، وفي رواية: (إِلَّا كَلْبَ زَرْعٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ صَيْد).
وجاء في بعض الروايات: (نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) (متفق عليه)، وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ).
ويُؤخذ من هذا: حرمة اقتناء الكلاب التي لا فائدة فيها، كما نصت الأحاديث على استثناء ما فيه فائدة، وهي كلاب الصيد، وكلاب حراسة الزرع، وكلاب حراسة الماشية، وقد يقاس عليها الكلاب البوليسية؛ لأن لها منفعة كالكشف عن المتفجرات والمخدرات.
قال النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم: "وأما اقتناء الكلاب: فمذهب الشافعية أنه يحرم اقتناء الكلب بغير حاجة، ويجوز اقتناؤه للصيد وللزرع وللماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لظواهر الأحاديث، فإنها مصرحة بالنهي إلا لزرع أو صيد أو ماشية، وأصحهما: يجوز، قياسًا على الثلاثة، عملًا بالعلة المفهومة من الأحاديث، وهي الحاجة، وهل يجوز اقتناء الجرو وتربيته للصيد أو الزرع أو الماشية؟ فيه وجهان لأصحابنا -الشافعية- أصحهما: جوازه. والكلب الضاري هو المعلَّم الصيد المعتاد له، ويترتب على حرمتها عدم دخول ملائكة الرحمة للبيت الذي هي فيه، أما الحفظة فلا يفارقون الإنسان بأي حالٍ مِن الأحوال، ونقصان الثواب الذي يستحقه المرء على عمله في كل يوم بمقدار اختلفت فيه الروايات ما بين قيراط وقيراطين، والقيراط قدر معلوم عند الله -تعالى-".
ثانيًا: حكم بيع وشراء الكلاب:
روى البخاري ومسلم عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ"، وفي رواية عن رافع بن خَدِيج أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ)، ومهر البغي هو: ما تأخذه في مقابل الزنا بها، وسمِّي مهرًا؛ لكونه على صورته، وهو حرام بالإجماع. وحُلْوان الكاهن: ما يعطاه على كهانته، وسمي بذلك؛ لأنه سهل من غير كلفة، فله حلاوة معنوية، وهو حرام بالإجماع؛ لأنه عوض عن محرم، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل.
يقول الدميري في كتابه: "حياة الحيوان الكبرى": "لا يصح بيع الكلاب عند الشافعية، خلاَفًا لمالك فإنه أباح بيعها حتى قال سُحْنُون: ويحج بثمنها. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور".
ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: "وأما النهي عن ثمن الكلب وكونه من شر الكسب، وكونه خبيثًا؛ فيدل على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على متلفه؛ سواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا. وبهذا قال جماهير العلماء، ومنهم: الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على متلفها. وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي جواز بيع كلب الصيد دون غيره. وعن مالك روايات إحداها: لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة على متلفه، ودليل الجمهور هذه الأحاديث.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب إلا كلب صيد، وفي رواية: إلا كلبًا ضاريًا، وأن عثمان غَرَّم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا، وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه؛ فكلها ضعيفة باتفاق أغلب المحدثين".
وجاء في كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني تعليقًا على حديث الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب: "فيه دليل على تحريم بيع الكلب، وظاهره عدم الفرق بين المعلَّم وغيره، سواء كان مما يجوز أو مما لا يجوز، وإليه ذهب الجمهور".
ثالثًا: نجاسة الكلب:
جمهور أهل العلم علي نجاسة ريقه خلافًا لشذوذ المالكية بطهارة الكلب في كل شيء حتى ريقه، ودليلنا ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- في صحيح مسلم: (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ)، والظاهر مِن الحديث: أنه لو لم يكن نجسًا لما أمر بإراقته؛ لأنه يكون حينئذٍ إتلاف مال، وقد نهينا عن إضاعة المال، والدلالة من الحديث ظاهرة أيضًا، فإن الطهارة تكون من حدث أو نجس، وقد تعذر الحمل هنا على طهارة الحدث فتعينت طهارة النجس، أما سائر بدنه: فالراجح قول الحنابلة بطهارة سائر البدن، وإن كنت أري التحرز من ذلك خروجًا من الخلاف.
رابعًا: حكم التلفيق بين المذاهب للترخص باقتناء الكلاب:
مِن أغرب ما سمعتُ من المفتي السابق دكتور "علي جمعة" -غفر الله لنا وله- بجواز اقتناء الكلاب بحيلة سماها: الترخص برفع اليد؛ للخروج من حيلة البيع.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلًا شرعيًّا، وناقض مصلحة شرعية معتبرة" (الاعتصام).
ونقول لمَن قال بجواز تقليد مذهب مالك في البيع وأبي حنيفة في الاقتناء: الراجح هو تحريم بيع الكلب على الإطلاق؛ لأنه نجس العين، ومِن شروط المبيع أن يكون طاهرًا.
هل يجوز للمقلد أن يقلِّد الإمام أبا حنيفة والإمام مالك في ذلك (يعني التلفيق)؟
أقول: هناك حالات للتلفيق تختلف تبعًا لحال الشخص، فلينظر المرء حاله وعلمه وليختر لنفسه:
1- أن يعتقد المقلد بحسب حاله وعلمه رجحان مذهب الحنفية في ذلك، فيجوز اتباعًا للأرجح، وهذا مفقود هنا؛ كونه مقلدًا لا يملك أدوات الترجيح.
2- أن يقصد بتقليده اتباع الأحوط، وهذا مفقود في مسألتنا، فمذهب الشافعي -والموافق لظاهر الأدلة هنا- هو الأحوط.
3- أن يقصد بتقليده الرخصة لحاجة شديدة وضرورة مرهقة، فيجوز تقليد مذهب الغير، وليست هناك ضرورة؛ فضلاً عن حاجة، بل من التحسينات.
4- ألا تكون هناك ضرورة ولا حاجة، بل مجرد الترخص مع اعتقاده رجحان مذهب الشافعي، فهذا لا يجوز له التلفيق.
5- أن يجعل تتبع الرخص مِن كل مذهب ديدنه؛ فهذا فاحش جدًّا.
هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل.