كتبه/ وائل رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِن سعادة الدنيا والآخرة: صلاح الأبناء، فالولد الصالح خيرُ كنزٍ يحصل عليه الأبوان في حياتهما، وخيرُ كنزٍ يتركانه بعد مماتهما.
ومِن الملمَّات التي ألمَّت ببعض الأسر المتدينة: عدم التزام أبنائهم، حيث خالفتْ آمالهم وتوقعاتهم في هؤلاء الأبناء، الواقع الذي هم عليه، فوجد هؤلاء الآباء أنهم قد أخرجوا جيلًا سلك سُبلًا أخرى غير الالتزام بالشرع؛ جيلًا متمردًا على توريث الالتزام، رافعًا شعار: "لن أعيش في جلباب أبي!".
وليس موضوعنا مناقشة هذه القضية وأبعادها وأسبابها فالأمر يطول؛ إلا أننا نقف عند معنىً وبُعْدًا آخر منها، أثاره د."أحمد خليل خير الله" في حواري معه عن هذا الموضوع حيث قال لي: "إذا خسر الأب ابنه كمتدين، فلا يجب أن يخسره كإنسان"؛ استوقفني هذا المعنى كثيرًا، ووجدت أنَّ فئةً ممن ابتلوا بهذا الأمر في حاجة إلى أن يصل إليهم هذا المفهوم.
فمِن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها بعض الآباء، سوء العلاقة بينهم وبين أبنائهم؛ بسبب انحراف هؤلاء الأبناء عن المسار الذي خططوا لهم أن يسيروا فيه، ولا شك أن فساد هذه العلاقة ينذر بخطر كبير، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى زيادة انحراف الأبناء وانفلات أمرهم، فيخسرون دينهم ودنياهم.
ولا شك أن الحفاظ على علاقة إيجابية بين الآباء والأبناء لابد أن يكون هدفًا رئيسًا لكل أب، كما يؤكد د. "مصطفى أبو السعد" أن 70% من التربية يقوم على العلاقة الإيجابية بين الآباء والأبناء، فالتربية حب، والحب يصنع المعجزات؛ الحب يصنع ما لا يصنعه العقاب، ولا الضرب ولا العنف.
ولنا في نبي الله نوح -عليه السلام- عبرة وعظة، فانظر إلى ندائه الرقيق بينه وبين ابنه في المشهد الأخير قبل أن يبتلعه الطوفان؛ لقد أدرك -عليه السلام- الخطر العظيم المحدق بابنه في هذه اللحظة الحرجة التي تفصل بينه وبين الجنة أو النار، فناداه بأرق عبارة نداء المشفق المحب فقال: (يَا بُنَيَّ)!
أراد -عليه السلام- أن يلين قلبه، وأن يُذَكّره بأبوته التي لن يأتيه منها إلا كل خير، ثم إنه لم يَدْعُهُ في هذا الموقف بنداء الإيمان؛ خوفًا منه -عليه السلام- أن يأتي جواب ابنه بالإعراض عن الهدى، كما كان يعرض طوال السنين الماضية فيُخْتَم له بالكفر، لكنه عدل عن ذلك إلى قوله: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، يعني لا أريد منك الآن سوى الركوب لتنجو مِن الغرق.
ثم قال: (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود:42)، فلم يقل: "ولا تكن مِن الكافرين"؛ كي لا يكون عونًا للشيطان عليه؛ فيزداد عتوا ونفورًا.
فأعد النظر مليًّا في هذا الموقف النبوي، وقارنه بأولئك الذين يبادرون إلى طرد أبنائهم ولعنتهم عند حدوث أي خطبٍ لا يُقارَن بما أحدثه ابن نوح -عليه السلام-!
وكثيرٌ مِن المربين يهتمون بالتقويم والاستقامة والأمر بالصواب، والعقاب على الخطأ، وغيره مِن الممارسات التربوية المعروفة، لكن قليلًا منهم مَن يرعى اهتمامًا بالحاجات النفسية في التربية على الرغم مِن أهميتها الكبيرة كأساسٍ للعملية التربوية برمتها.
وقد حثَّ رسول الله على الرفق في الأمر كله فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) (متفق عليه)، ولا شك أن مِن أعظم الأمور التي تحتاج إلى اللين والرفق تربيةَ الأبناء، إذ هم بَضْعةٌ منك، والرفق واللين لا يعني التفريط فيما إذا فعلوا شيئًا مما حرَّمه الله -تعالى-، ولكنه يعني الحكمة والحنكة في التعامل مع هذا التفريط وهذه الأخطاء.
مِن هنا فإن على الآباء أن يتفطنوا لذلك، ويدفعوا أكبر المفسدتين بتحمل أدناهما؛ فبعض الشرّ أهون مِن بعض، بل إن الأب لو شعر أن زيادة إنكاره أو نصحه لابنه سيؤدي إلى زيادة تمرده وعصيانه؛ فعليه أن يخفف مِن ذلك، ويتحين الفرص المناسبة ويسدد ويقارب، وهذا ما فعله نوح -عليه السلام-؛ فقد علم أن غرق ابنه على الكفر أكبر مفسدة يقع فيها الابن، سعى لإنقاذه مِن الغرق بركوبه معه ولو كان على الكفر، فبنجاته مِن الغرق يبقى الأمل موجودًا في إيمانه وصلاح شأنه.
هذا هو مقتضى الحكمة في مثل هذه المواقف: أن تكسب ابنك، وتبقي بينك وبينه مساحة كبيرة مِن الود والاحترام والعلاقة الإيجابية، خيرٌ مِن أن تخسر ذلك جميعًا، وما سوى ذلك فليس مِن الحكمة والعقل في شيء.