كتبه/ خالد فوزي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
أما بعد فقد جاء عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعا في مسجد الفتح ثلاثًا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه. قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهمٌّ غليظ إِلاّ توخَّيْتُ تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة" (رواه أحمد وغيره).
وقد تقدَّم معنا في المقالة السابقة أن مداره على كثير بن زيد، الذي قال فيه الحفاظ كالحافظ ابن حجر: "صدوق يخطئ"، وأن هذه اللفظة التي يطلقها ابن حجر في رجال المرتبة الخامسة التي لم يشترط لها المتابع.
فابن حجر رتب الرواة وذكر في خطبة كتابه "تقريب التهذيب" ما نصه: "أنني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة، وأخلص إشارة".
ثم قال: "انحصر لي الكلام على أحوالهم في اثنتي عشرة مرتبة"، وهذه المراتب تنقسم إلى ست مراتب في التعديل، وست في الجرح، وذكر في المرتبة الخامسة أنهم: الذين ذكر أنهم مَن قصر عن الرابعة قليلًا (وهم مرتبة الصدوق)، قال: "وإليه الإشارة بصدوق سيئ الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، إلخ". وأتبعها بالسادسة، قال فيهم: "مَن ليس له مِن الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه مِن أجله، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع، وإلا فلين الحديث".
ولما ترجم لكثير بن زيدٍ قال: "صدوق يخطئ"، فعلمنا أن كثيرًا عنده في المرتبة الخامسة، وهم الرواة الذين لم يخرجوا عن أصل العدالة، مع خفة في الضبط، وبقي أن ننظر في احتياج مروياتهم للمتابعة أو لا؟ فالصحيح أن رجال خامسة ابن حجر لا يفتقر أحدهم إلى متابعة عند ابن حجر، لمفهوم قوله في السادسة: "مقبول حيث يتابع"، فاشترط المتابع لخصوص مقبول رجال السادسة، فعلمنا أن رجال الخامسة عنده في الجملة حديثهم كالحسن لذاته، وليس كالحسن لغيره الذي يحتاج متابعة.
وقد منَّ الله علي بتدريس مادة (دراسة الأسانيد) بدار الحديث بمكة، وقد أعطيت كل طالب رجلًا ممَن قيل فيه: (صدوق يهم) أو (صدوق يخطئ) أو (صدوق يخطئ كثيرًا) وأشباه هذا؛ للتدرب على دراسة كيفية الجمع بين أقوال علماء الجرح والتعديل في الرجل الواحد، من خلال قواعد الجرح والتعديل المتنوعة، ومقارنة ذلك بحكم ابن حجر، وقد تبين لي أن ابن حجر في الجملة يميل إلى وضع الرجل في الطبقة الخامسة إذا لم يكن متهمًا تهيئة منه لقبول حديثه في جملة الحسن، والحديث الحسن وسط بين الصحيح والمردود، ولدقته قال الحافظ الذهبي: "ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدةً تندرج كل الأحاديث الحسان فيها؛ فأنا على إياسٍ من ذلك، فكم من حديثٍ تردد فيه الحفاظ: هل هو حسنٌ أو ضعيفٌ أو صحيحٌ؟" (الموقظة، ص 28).
لكن في الجملة اعتمد العلماء في تحديده على سبر مرويات الراوي، فإن توبع على أكثر ما رواه فيقبل حديثه جملة، حتى لو وقع منه خطأ في بعضه، لكنه لا يتابع على الخطأ، بل ما أخطأ فيه وخُولف فيه فهو مِن ضعيف حديثه، وما توبع عليه ووافقه مَن هو بمرتبته أو أعلى فهو مِن صحيح حديثه، أما التي لم نجد لها متابعة ولا شاهدًا فهو الحسن، وقبوله تحسينًا الظن بالراوي فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
وليت الجامعات تتبنى مشروعات علمية في سبر مرويات (خامسة ابن حجر) والحكم عليها، وعلى كلٍ؛ فالمقصود التنبيه على أنه ليس كل مَن كان في هذه الخامسة يكون مردود الحديث، ولاسيما مِن رجال هذه الطبقة من حديثه في الصحيحين أو أحدهما، فعلى سبيل المثال: فممن قال فيهم ابن حجر: "صدوق يخطئ": إسماعيل ابن زكريا ابن مرة الخُلْقاني (ت194هـ)، وقد أخرج له الجماعة، وكذا إسماعيل ابن مجالد الهمداني، وبشر ابن عبيس. وأخرج لهما البخاري، وممن قال فيهم: "صدوق يخطئ كثيرًا": شريك ابن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، ويحيى بن محمد المحاربي الضرير، ويونس ابن أبي يعفور، وأخرج لهم مسلم. ومِن المشهورين: نعيم ابن حماد المروزي، وأخرج له البخاري ومسلم في المقدمة.
وممَن قال فيهم ابن حجر: "صدوق يهم": حَزْم ابن أبي حزم القطعي وأخرج له البخاري، وكذا إسماعيل ابن عبد الرحمن ابن أبي كريمة السدي، وجبر ابن نوف البكالي، وجعفر ابن برقان، والحارث ابن أبي ذباب، ويونس ابن أبي إسحاق السبيعي أبو إسرائيل الكوفي؛ وقد أخرج لهم مسلم، وكذا حاتم ابن إسماعيل المدني، وقد أخرج له الجماعة، وكذا حرمي ابن عمارة وأخرج له البخاري ومسلم، وغيرهم كثير.
كما وقفتُ على العديد مِن الروايات التي تفرد بها رجال مِن هذه الطبقة، وصححها العلماء، منها قول أبي هريرة: "ما رأيتُ رجلًا أشبه بصلاة رسول الله مِن فلانٍ لإمام كان بالمدينة... "، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وأثر: "إنَّه لا جديد لمَن لا يلبس الخَلِق"، وغيرها كثير.
وعلى كلٍّ فثبت بمجمل هذا: أن تفرد راوٍ مِن المرتبة الخامسة عند ابن حجر لا يعني بالضرورة ضعف الرواية، فتكون رواية كثير بن زيد في وقت الإجابة يوم الأربعاء مقبولة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.