كتبه/ خالد فوزي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد جاء عن جابر -رضي الله عنه-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مسجد الفتح ثلاثًا، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه، قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهمٌّ غليظ إِلاّ توخَّيْتُ تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة" (رواه أحمد والبزار وغيرهما).
وفي شرح صحيح الأدب المفرد للشيخ حسين العوايشة (2/ 380- 381) قال: "مسجد الفتح: هو المرتفع على قطعة مِن جبل سلع في المغرب، يصعد إليه بدرجتين شمالية وشرقية، وهو المراد بمسجد الفتح عند الإِطلاق، ويقال له أيضًا: مسجد الأحزاب، والمسجد الأعلى. قال شيخنا أي: الألباني: لولا أَنَّ الصحابي أفادنا أَنَّ دعاء الرسول في ذلك الوقت من يوم الأربعاء كان مقصودًا، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وليس الخبر كالمعاينة، لولا أَنَّ الصحابيّ أخبَرنا بهذا الخبر؛ لكنّا قُلْنا هذا قد اتفق لرسول الله أَّنه دعا فاستجيب له في ذلك الوقت مِن ذلك اليوم، لكن أَخذ هذا الصحابي يعمل بما رآه من رسول الله يومًا ووقتًا ويستجاب له، إِذًا هذا أمرٌ فهمناه بواسطة هذا الصحابي وأَنّه سنّةٌ تعبدية لا عفوية". قال جابر: (ولم ينزل بي أمر مهمٌّ غائظ): غائظ اسم فاعل مِن غاظ، أي: شديد. (إِلاّ توخَّيْتُ تلك الساعة). قال في النهاية: (توخيت الشيء: أتوخَّاه توخِّيًا؛ إِذا قصدْت تلك وتعمَّدت فِعْله وتحريْت فيه). (فدعوتُ الله فيه بين الصلاتين يومَ الأربعاء في تلك الساعة إِلاّ عرفْتُ الإِجابة): أي: الظهر والعصر كما في بعض الروايات. والله أعلم بصحّتها. وفيه الإِلحاح في الدعاء وعدم الملالة منه وعدم استعجال الإجابة" (انتهى).
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الحديث يعمل به طائفة مِن أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا كما نقل عن جابر، ولم يُنقل عن جابر أنه تحرى الدعاء في المكان، بل في الزمان" (اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 433).
وقال البيهقي: " ويتحرى للدعاء الأوقات والأحوال والمواطن التي يرجى فها الإجابة تمامًا، فأما الأوقات فمنها ما بين الظهر والعصر مِن يوم الأربعاء" (شعب الإيمان، 2/ 46).
وهذا الحديث أورده البيهقي في فضائل الأوقات برقم: (305)، وقطب الدين الحنفي في تاريخ المدينة (ص 134)، وقال البزَّار عقبه: (لا نعلمه يروي عن جابر إلا بهذا الإسناد)، وهذا الإسناد جوَّده الحافظ عبد العظيم المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 180)، والسيوطي في سهام الإصابة في الدعوات المستجابة ص (75)، وأشار السيوطي في الخصائص الكبرى إلى ثبوته، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات"، وقال السَّمهودي في وفاء الوفا (3/ 830): "ورُوِّينا في مسند أحمد برجال ثقات" وذكر الحديث، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، وفي صحيح الأدب المفرد.
وقد قيل في هذا الحديث: إنه ضعيف لعدة علل، لعل أشهرها: الكلام في راوية (كثير بن زيد)، ثم الكلام في اضطرابه في روايته فيه.
والكلام في اضطراب روايته بسبب الاختلاف مِن الثقات على كثيرٍ بن زيد في الإسناد والمتن جميعًا، ففي بعض الروايات يحدِّث به عن عبد اللهِ بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ وفي بعضها يحدث به عن أبيه؛ وسمى المسجد في بعض الروايات (مَسْجِدِ الفَتْحِ)، وفي أخرى: (مَسْجِدِ قُبَاء)، وفي ثالثة أن (مَسْجِدِ الأَحْزَابِ).
ولا إشكال عندي في تسمية المسجد، فلو كان اضطرابًا، فهو في تسمية المسجد فقط، ولا يؤثر في الحكم، كما كان الاضطراب في حديث القلادة فيما فيها مِن دنانير ودراهم لم يؤثر في الحكم أنها لا تباع حتى تفصل.
وأما الاضطراب في الإسناد، فيمكن رده بأن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب، الذي يروي عن أبيه رجل آخر، أشار له ابن حجر في تعجيل المنفعة (1/750 ـ ح563)، علمًا أنه تابع كثيرًا ابنُ أبي ذئب متابعة قاصرة تلتقي في راوي الحديث، لكن في إسنادها رجل من بني سلمة، ولعله أحد الرجلين عبد الله بن عبد الرحمن أو أبوه عبد الرحمن؛ لأنهما أنصاريان من بني سلمة، فإن كان عبد الرحمن بن كعب فهو ثقة، وإن كان عبد الله بن عبد الرحمن، فهو مستور الحال، فيصح تحسين الإسناد حينئذٍ، وهو ما درج عليه شيخنا الألباني.
أما كثير بن زيد، فقد اختلف فيه علماء الجرح والتعديل ما بين موثق ومضعف له، بل وابن معين تارة يُضعِّفه وتارة يوثقه؛ ولذا لخص ابن حجر القول فيه بأنه (صدوق يُخطئ)، فقد ترجم لكثيرٍ هذا وقال: "كثير بن زيد الأسلمي أبو محمد المدني ابن مافنه بفتح الفاء وتشديد النون، صدوق يخطئ، مِن السابعة، مات في آخر خلافة المنصور"، وأشار إلى أنه أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
فجعله مِن مرتبة التعديل الخامسة، يشير أنه يُحسن حديثها لذاته، فلا تفتقر إلى متابعة.
وهو ما يتم بحثه -بإذن الله- مختصرًا في المقالة الآتية، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.