كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:71).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول الله تعالى -مُخبِرًا عن إبراهيم- أنه سَلَّمَه اللهُ مِن نار قومه، وأخرَجَه مِن بيْن أظْهُرِهِم مُهاجِرًا إلى بلاد الشام، إلى الأرض المُقَدَّسَة منها، وعن أُبَيِّ بن كَعب قال: "الشام"، وكذا قال أبو العلياء وقتادة".
فبداية تَعمِيرِ بيت المقدس كان هجرة إبراهيم -عليه السلام- إليها، قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
فميراثُ إبراهيم ميراثُ مِلَّةٍ ودِينٍ وعَقيدةٍ؛ لا يستحقه إلا مَن كان على دينه مِن التوحيد والإيمان بالرسل، وكذلك ميراثُ يعقوب -الذي هو إسرائيل عليه السلام- قال -تعالى-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) (البقرة:130-131)، أي: ووَصَّى بكلمة الإسلام إبراهيمُ أبناءَه، وَوَصَّى يعقوبُ أبناءَه أيضًا مثلما وصى بها إبراهيمُ -عليه السلام-: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132-133).
فبنو إسرائيل كانوا مِن المُسْلِمين؛ فمَن كان منهم -مِن ذُرِّيَتِهِم- مُسْلِمًا مُوَحِّدًا مُتَّبِعًا للأنبياء كان لهم مِن ميراثهم في الأرض المُقَدَّسَة، ومَن كان كافِرًا مُكَذِّبًا للأنبياء لم يكن له نصيب فيها.
وقال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذر لَمَّا سَأَلَه: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) (رواه مسلم)؛ وهذا يَدُلُّ على أن أَوَّلَ مَن بنى "المسجد الأقصى" إما إبراهيم، وإما إسحاق، وإما يعقوب -عليهم السلام-، أَوْ هُم جميعًا؛ لأن هذه المُدَّةَ بعد بناء الكعبة في "مَكَّةَ المُكَرَّمَة" لا تتجاوز ذلك في الغالب.
وأما بِنَاءُ سُلَيمان -عليه السلام- للمسجد الأقصى فكان بعد تحرير "بيت المقدس" مِن أعداء بني إسرائيل الذين أخرجوهم منه، كما دَلَّت عليه آيات سورة البقرة في قصة داود -عليه السلام-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة:246) إلى قوله -تعالى-: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (البقرة:251).
والذي يَنْقُلُه أهلُ الكِتاب أن أَوَّلَ هَدْمٍ للمسجد الأقصى كان على يد "بُختُنَصَّر"؛ فَدَمَّرَ المدينة المُقَدَّسَة كُلَّها، وهو الذي يعرف بـ "سَبْيِ بَابِل"، والقرآن والسُّنَّةُ يَدُلّان على أن مُلك يوسف -عليه السلام- لمصر والجدب الذي حدث في صحراء الشام في تلك الأيام كان سبب هجرة يعقوب وذُرِّيَّتِه إلى مصر، قال -تعالى- عن يوسف: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف:93) إلى قوله -تعالى-: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى? يُوسُفَ آوَى? إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99).
وظل بنو إسرائيل في مصر إلى أن وَقَعَت لهم المِحْنة على يَدِ فرعون، ونَجَّاهُم اللهُ منه مع موسى وهارون -عليهما السلام-، وأَهْلَكَ فرعون وجُنْدَه؛ وبنو إسرائيل إذ ذاك مسلمون مؤمنون، قال -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (يونس:84-85).
وبعد هَلاكِ فرعون اتجه موسى ببني إسرائيل إلى الأرض المُقَدَّسة، وأَمَرَهُم بالقِتَالِ لِدُخولِها، ووعَدَهم أنها لهم: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:21-24)؛ فعند ذلك كَتَبَ اللهُ عليهم التِّيْهَ، عُقوبَةً لهم على مُخالَفَة نَبيِّهِم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وتَرْكِهِم الجِهادَ الذي أُمِرُو به.
ومات هارون ثم موسى -عليهما السلام- في فترة التِّيْهِ، ولم يدخل الأرض المقدسة؛ بل لما أتاه الموتُ سَأل اللهَ أن يُدنِيه مِن الأرض المقدسة رميةً بحَجَرٍ، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: (فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ، لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) (متفق عليه).
ثم كان يُوشَع بن نون -فَتَى مُوسَى- هو الذي نبَّأَهُ اللهُ بعد مُوسَى، وقاد بني إسرائيل إلى "بيت المقدس"، وهو النبيُّ الذي حُبِسَت له الشمسُ عَصْر الجُمعة -لكي يُقاتِل قَبل دُخولِ لَيلةِ السَّبْتِ-؛ فَقَاتَل حتى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ "بيت المقدس".
وسَكَنَها المُؤْمِنون المُسْلِمون المُوَحِّدُون من بني إسرائيل مُدَّةً من الزمن، إلى أن وَقَعَ ما أَخْبَرَ اللهُ عنهم من الفَسادِ والعُلُوِّ: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) (الإسراء:4-6).
كان الفسادُ الذي وَقَعَ منهم فَسادُ الاعتقادِ والعَمل، من الشِّرْك والكُفْرِ، مِن تكذيب الأنبياء وقَتْلِهِم بغير حَقٍّ، وأنواع الفساد والطغيان والبَغْي، وظَاهِرُ القرآنِ أن هذا بعد نزول "التَّوْرَاة"؛ لأنه قال: (وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) وهو التوراة.
فكانت المَرَّة الأُولى مِن الإفسادتين التي جاء وعد العقوبة عليها على يَدَي "بُختُنَصَّر" -على المَشهورِ عندهم-، قال سعيد بن المُسَيِّب -رحمه الله-: "ظَهَرَ بُختُنَصَّر على الشام، فَخَرَّبَ بيت المقدس"، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا هو المشهور، وأنه قَتَل أَشرافَهم وعُلَماءَهُم، حتى إنه لم يبق من يَحْفَظُ "التَّوْرَاة"، وأَخَذ مَعَه منهم خَلْقًا كَثيرًا أَسْرَى، من أبناء الأنبياء وغيرهم" (انتهى).
وظَاهِرُ القرآن يَدُلُّ على أنه دَمَّرَ المسجد تدميرًا؛ لقوله -تعالى-: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) أي: يُدَمِّروا ما عَلَوا عليه -أي: ظَهَرُوا عليه- مِن البلد تدميرًا؛ فدَلَّ على أن المَرَّةَ الأولى كان فيها تدمير شامل.
وقد كان "بُختُنَصَّر" مُشْرِكًا كافرًا، لكن سَلَّطَهُ اللهُ على بني إسرائيل؛ لإساءَتِهم وكِبْرِهم وإفسادِهِم؛ لِنَعْلَم سُنَّةَ اللهِ في خَلْقِه، أنه قد يُسَلِّطُ الكُفَّارَ على المسلمين إذا ظَهَرت فيهم البِدَع والشرك والظلم والفساد.
ثم إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَفَّقَ بني إسرائيل بعد مُدَّةٍ -بِدَعْوَةٍ مِن نَبِيٍّ لَهُم- للطاعة والإيمان والرَّغْبَة في الجهاد، ورَدَّ اللهُ لهم الكَرَّةَ عَلَيهم، ومَدَّهم بأموالٍ وبَنِين، وجَعَلَهُم أَكْثَرَ نَفيرًا -أي: عَسْكَرًا- مما كانوا عليه من قبل؛ فنَصَرَهم الله مع "طَالُوت" -مَلِكَهم الذي بعثه الله لهم على لسان نَبِيِّهِم- فدخلوا "بيت المقدس"، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ -بعد طَالُوت- وَالْحِكْمَةَ، جَعَلَهُ نَبِيَّاً مَلِكًا، وآتاه "الزَّبُور"، وكان مُجاهِدًا في سبيل الله، صَائِمًا قَائِمًا عَابِدًا، تَالِيًا لكتاب الله.
ووَرِثَه سُليمان -عليه السلام-، وهو الذي بنى "بيت المقدس"، وفي الحديث الصحيح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ، إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ) (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني).
فالمسجد الأقصى بُنِيَ على التوحيد والإيمان والإسلام واتِّبَاعِ الأنبياء، ولم يُبْنَ على الكفر والتكذيب قَطّ؛ فإذا ضَيَّعَتْهُ الأُمَّةُ المُسْلِمة بتفريطها وإساءَتِها نَزَعَهُ اللهُ -عزَّ وَجَلَّ- منهم.
وفي أخبار أهل الكتاب أن الرومان هم الذين هدموا "المسجد الأقصى" المرة الثانية، بعد أن سَلَّطَهُم اللهُ عليهم -بإفسادِهِم وكِبْرِهِم- ودَمَّرُوا البَلَدَ تَدمِيرًا، قال -تعالى-: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي المرة الآخرة مِن الإفسادتين جاء وقت العقوبة عليها (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسراء:7).
وبُعِثَ يحي وعيسى -عليهما السلام- والمسجدُ مهدوم، وظَلَّ مَهدُومًا إلى عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
وعندما فَتَح المسلمون "بيت المقدس" سنة 16 مِن الهجرة في عهد أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب -رَضِي اللهُ عَنهُ- بنى عُمَر "المسجد الأقصى"، وجعل الصخرة خلف قِبْلَتِه، ولم يقبل ما أشار عليه "كعب الأحبار" أن يبنيه خلفها لتكون الصخرة في جهة القبلة؛ حتى لا تُعَظَّمَ بالصلاة إليها مع الكَعْبَة.
وكان هذا دليلٌ على أن الأُمَّة إنما يعود لها المسجد بالإسلام والإيمان بغض النظر عن النَّسَب؛ فبنو إسرائيل غيرُ المسلمينَ المُؤمنينَ ليسوا وارثين للأرض المُقَدَّسَة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105).
وقد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أصحابَه -وَهُم بَعْدُ في دَولَةٍ صغيرةٍ- أنهم فاتحون "بيت المقدس" بعد موته، كما في الحديث الصحيح في البخاري، عن عوف بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوَتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ -أي: راية- اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) (رواه البخاري). أي: تسعمائة وستون ألف مقاتل، وقد وَصَفَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وُقُوعَ الملحمة الكبرى وهلاكَهم، والظاهر أن ذلك في زمن "المَهْدِيّ" -رضي الله عنه-.
وبنى عبد الملك بن مروان مسجد "قبة الصخرة" في فترة مُلْكِه.
ثم لما وقع التفريط مِن المسلمين في المائة الخامسة مِن الهجرة، وتَسَلَّطَ عليهم أَهْلُ البِدَع -المُظْهِرون للرَّفْضِ والتَّشَيُّع، المُبْطِنُون للكفر والإلحاد- من بني عبيد القَدَّاح -المعروفون في التاريخ بالفاطميين-، وتَرَك المسلمون في دولة العباسيين ما أُمِروا به مِن العدل والشرع والجهاد؛ سَلَّطَ اللهُ الصليبيين على "بيت المقدس" سنة 492 مِن الهجرة 1099 مِن الميلاد، فَقَتَلُوا كُلَّ مَن بها مِن المسلمين، ورَفَعوا صَلِيبًا على "قبة الصخرة" وجعلوا "المسجد الأقصى" اسطبلًا للحيوانات، ولم يهدموه.
وظل تحت احتلالهم 88 سَنَة، حتى أعادَهُ اللهُ على يدي "صلاح الدين" امتِدَادًا لعهد الإصلاح على يد نور الدين محمود -رحمهم الله-، وذلك بعد إنهاء المملكة الباطنية المَعروفة زورا بالفاطمية، وألغاها "صلاح الدين"، ورَدَّ مصر إلى السُنَّة، ونَشَر فيها كُتُبَ السُنَّة وفِقْهَ المذاهب الأربعة؛ فاجتمع له بعد موت "نور الدين" مُلْكُ مصر والشام، وتَوَحَّدَ البلدان، وانتصر المسلمون على الصليبيين في "حِطِّين" وفُتِح "بيت المقدس" سنة 583 من الهجرة، والحمد لله.
وظل في أيدي المسلمين إلى أن وقع الفساد في "الدولة العثمانية" في قرونها الثلاثة الأخيرة، وعَمَّت البِدَع، وانتشر الظلم، وحَارَبوا دعوات الإصلاح -التي منها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ الله-، وظَهَرَت النعرات "القومية التركية"، وكَرَدِّ فِعْلٍ عليها ظهرت "القومية العربية"، وتَفَرَّقَت الأُمَّة، وهُزِمَت "الدولة العثمانية" في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م، ودَخَل الحُلَفَاءُ إلى "القُدْس" في هذه السَّنَة، ووُضِعَت "فلسطين" كلها تحت الانتداب البريطاني، ثم صدر "وَعْد بِلْفُور" -في تلك السَّنَة- بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وَعْدٌ ممَن لا يملك لمَن لا يستحق، دون رضى من أهلها المسلمين ولا من غيرهم من المسلمين في أرجاء الأرض.
وظَلَّت الأُمَّة تترنح بعد سقوط الخلافة وتفرّق الدول وانتشار العلمانية واحتلال الغرب لعامة بلادها -ربما عدا بلاد الحرمين وبعض البلاد الفقيرة- وتم تنفيذ المخططات العالمية للصهيونية بالتمكين لليهود في فلسطين.
وأُقِيمَت دولة إسرائيل، التي يبرأ منها إسرائيلُ -يعقوبُ عليه السلام- سنة 1948، ولم يدخلوا إلى ناحية "المسجد الأقصى" لكي لا تهيج عواطف المسلمين، وصدر قرار التقسيم، وظل "المسجد الأقصى" تحت الرعاية الأردنية.
ثم دخلت القوات الإسرائيلية في 5 يونيو عام 1967 إلى "القدس" كلها، وأعلنوا توحيدها تحت سُلْطَانِهِم -الجزء الغربي، والجزء الشرقي- ولم يُغَيِّروا شيئًا مِن "المسجد الأقصى" وَقتَها؛ بل ظلت الصلوات تقام -في الأغلب- إلى وقتنا هذا.
ولكن بَدَأَت محاولات الحفريات وإحراق المسجد عدة مرات، والسماح بدخول اليهود إليه -وإنا لله وإنا إليه راجعون- عَدْلًا مِن الله على الأُمَّة الإسلامية؛ فليس الأمر بأَمَاِنِّينا ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء:123).
ثم حَارَب المصريون حرب رمضان، أكتوبر سنة 73، واستردوا "سيناء" بعد جهودٍ كبيرةٍ، لكن لم يستطع أَحَدٌ أن يتكلم على "القدس" و"المسجد الأقصى"؛ إذ أَعلَنَها الكيان الصهيوني عاصمة لهم، ولم يقبل أكثرُ العالَم ذلك، حتى جاء "ترامب" يُنَفِّذُ الوعد بنقل السفارة الأمريكية للقدس؛ ليفتح الباب أمام جميع الدول الدائرة في فَلَك "الولايات المتحدة" لتفعل ذلك؛ مُسْتَغِلًّا حالة الضعف الشديد التي تعم البلاد العربية والإسلامية، والتَّفَرُّق والاختلاف والفوضى -الخَلَّاقَة للشَّرِّ- في كثير من بلادهم التي تقترب مِن "القدس"، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكن وَعْدَ اللهِ بعودة "القدس" إلينا عَقيدةٌ رَاسِخَةٌ لا تتبدل، لأنها في القرآن: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55)؛ فبالإيمان والعمل الصالح، وبإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، وترك الشرك ومُحَارَبَتِه: تنتصر الأُمَّةُ، وتعود لها أرضها (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ) (الصافات:173).
وقد أخبر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن الدجال يهودي، كما في حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ في صحيح مسلم، وهو "مَسِيحُ الضَّلَالة" الذي ينتظره اليهود إلى الآن؛ إذ كَذَّبُوا المسيح الحق عيسى بن مريم -عليه السلام-، ورَمَوا أُمَّهُ بالبُهْتَان العظيم، ثم كَذَّبُوا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وللكافرين عَذَابٌ مُهين) (البقرة:90)، وأَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنه يتبع الدَّجَّال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة "وأصبهان في إيران"، والحديث رواه مسلم.
وأَخْبَرَ أن المسيح عيسى بن مريم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ينزل عند المنارة البيضاء، شَرْقِيَّ دمشق، فيُصَلِّى خلف إمام المسلمين -تكرمة الله لهذه الأُمَّة- ويصبح هو القائد للأُمَّة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ) (رواه البخاري). أي: لا يقبلها-، ويطلب المَسيحَ الدَّجَّالَ فيُدْرِكُه بباب لُدّ "قرية موجودة إلى الآن من قرى بيت المقدس" فيَقْتُلُه، ويريهم دَمَه في حَرْبَتِه.
وفي زمنه تكون المِلَّةُ واحدة -هي الإسلام- يؤمن ويسلم كل اليهود والنصارى؛ يؤمنون بالمسيح -عليه السلام- عَبْدًا ورَسُولًا، وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَاتِمًا للنبيين، قال الله -تعالى-: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:156-159).
فـ"القُدْسُ" تبقى إسلامية، وستظل إسلامية، وحَوْلَها الملاحم الكبرى قبْل السَّاعة؛ ومهما اغتر البعض بقُوَّتِهِم الزائفة -الزائلة إن شاء الله- فلن تَدُومَ لَهُم، وسوف يهدي الله الأُمَّة وتصحو مِن غَفْوَتِها، وتعود لنُصْرَةِ دِينِها، فتعود لها عزتها؛ فَلَا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللهِ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ الله إلا القَوْمُ الكَافِرُونَ.
نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُعَاِفَي المسلمين وبِلَادَهُم مِن كُلِّ سُوءٍ.