"بيان كفر مَن بلغته الدعوة فأبى واستكبر"
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قدَّمنا في المقالة السابقة حكم أهل الفترة ومَن في حكمهم مِن المجانين وذوي العاهات، وأطفال المشركين، كما بيَّنا إجماع الأمة على أن أطفال المسلمين في الجنة.
ونتناول في هذه المقالة الأمور الآتية:
- بيان عموم رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- بيان أن مناط العذر هو عدم بلوغ دعوة الرسل، وهو احتمال قائم بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم-.
- بيان الفرق بيْن مَن لم تبلغه الدعوة ومَن بلغته فأبى واستكبر.
أولاً: عموم رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-:
قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف:158)، وقوله -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1)، وقوله -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (يوسف:104)، وقوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ:28)، وقوله -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام:19)، وقوله -تعالى-: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (يونس:2).
وقوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3)، وقال -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر:22)، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) (الأنعام:125)، فكما ختمَ الله سبحانه وتعالى- الدين بالإِسلام فقد ختم الأنبياء بمحمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، فقال -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب:40).
وجاء في الحديث الشريف: (مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) (متفق عليه).
لا عذر لمن بلغته الدعوة فادعى أنه -صلى الله عليه وسلم- رسول إلى العرب خاصة:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الجواب الصحيح على مَن بدَّل دين المسيح في معرض رده على مَن قال: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول إلى العرب خاصة!: "هُوَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا)، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِدَعْوَةِ الْجِنِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَذَّبُوهُ فِي ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ، أَوْ لَا يُقِرُّوا؛ فَإِنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، لَمْ يُمْكِنْ مَعَ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُ -كَمَا تَقَدَّمَ-، بَلْ يَجِبُ الْإِقْرَارُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ".
ثم قال: "وَأَيْضًا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أُرْسِلَ إِلَّا إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ دَعَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَكَفَّرَهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَجَاهَدَهُمْ، وَقَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ، وَسَبَى ذُرِّيَّاتِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ، وَمَنْ كَانَ نَبِيًّا قَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا.
فَالْإِقْرَارُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ -مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ عُمُومِ دَعْوَتِهِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ- قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَسُولٌ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ رِسَالَتَهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ رَسُولًا يَفْتَرِي عَلَيْهِ الْكَذِبَ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِاتِّبَاعِي، وَأَمَرَنِي بِجِهَادِكُمْ إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الرِّسَالَةِ وَإِلَّا فَلَا، فَالرَّسُولُ الْكَاذِبُ لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنْ رُسُلِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ تَصْدِيقَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ".
هل يتصور وجود مَن لم تبلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وما هو حكمه؟
قدَّمنا أن أهل الفترة هم الذين يكونون في فترة بيْن رسولين؛ لم تبلغهم دعوة الأول، ولم يدركوا الثاني، وبيَّنا أن الصحيح أنهم كفار مِن أهل الامتحان يوم القيامة.
وقدَّمنا عموم دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل الأرض، ولكل الأزمنة إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ فهل يتصور أن يوجد أحدٌ لم تبلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وما هو حكمه؟
ومتى يرتفع عذره؟
فأما التصور: فهو متصور عقلاً أن يوجد مَن لم تبلغه دعوة الإسلام، وكان العلماء يضربون له المثل بمن يعيش في جزيرة منعزلة أو مَن بعُدت ديارهم عن ديار المسلمين مِن الروم والتُرك -كما يأتي مِن كلام الإمام الغزالي رحمه الله-، وهذا بالطبع في الأزمنة التي لم تكن قد وُجدت فيها وسائل اتصالات على هذا النحو الذي عليه الآن.
وأما حكمه: فقد قال -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فدلَّ هذا على أن العبرة بالبلاغ، وهذه الآية وكل ما تقدم مِن أدلة عذر أهل الفترة وصفة عذرهم تنطبق على هؤلاء.
وأما عن إجابة السؤال: متى يرتفع عذرهم؟
فيؤخذ مِن ذات الآية أن عذرهم يرتفع إذا بلغهم القرآن؛ ولأنه معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- الخالدة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).
الجواب على مَن غلا في عذر مَن بلغته الحجة مِن الكفار:
قد يغلو البعض في هذا الباب فيرى أن هذا القدْر ليس كافيًا لإقامة الحجة وهو كافٍ -بإذن الله-؛ لا سيما والمطلوب هنا هو الإتيان بالإيمان المجمل مِن الشهادة لله بالوحدانية، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة - وبعد ذكر النصوص مِن قوله -تعالى-: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، ومِن قوله -صلى الله عليه وسلم-: لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
ويوضح هذا أمور:
1- القرآن هو الآية الباهرة التي أوتيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
2- خبر بعثة رسول يدعو إلى التوحيد ونبذ ما يعبد مِن دون الله كافٍ لتحريك دواعي النفس للبحث، ولا يصرفها عن ذلك إلا استحباب الدنيا على الآخرة.
3- أن إرسال الرسل هي الحجة المتممة لحجتين أخرتين، وهما: الميثاق والفطرة، وإذا كان المعتزلة قد غلوا في جانب الوعيد فقالوا بأن هذه الحجج الميثاق والفطرة كافية قبْل بعثة الرسل ففي المقابل يجب إلا نغفل أن دعوة الرسل هي تذكار بهذه المواثيق؛ فلا مجال لمزيدٍ مِن عذر بعدها.
4- بيان أن الله ذم مَن أبى واستكبر، وعذر مَن لم تبلغه رسالة الإسلام؛ فلا بد مِن التفريق بينهما.
5- بيان أن واجبنا إبلاغ الحق إلى الخلق وإزالة ما يعرض لهم مِن شبهات.
وهذا بيان لهذه المسائل:
1- القرآن هو الآية الباهرة التي واتيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الجواب الصحيح على مَن بدَّل دين المسيح -عليه السلام-: "وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَفِيهِ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ، فَلَهُ بِهِ اخْتِصَاصٌ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَالْقُرْآنُ يَظْهَرُ كَوْنُهُ آيَةً وَبُرْهَانًا لَهُ مِنْ وَجُوهٍ: جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. أَمَّا الْجُمْلَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَتِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مِنْ عَامَّةِ الْأُمَمِ، عِلْمًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَتَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ أَعْظَمَ مِنْ تَوَاتُرِهَا بِخَبَرِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ فِيهِ تَحَدِّي الْأُمَمِ بِالْمُعَارَضَةِ، وَالتَّحَدِّي هُوَ أَنْ يَحْدُوَهُمْ: أَيْ يَدْعُوَهُمْ فَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ، فَيُقَالُ فِيهِ: حَدَانِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ بَعَثَنِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ سُمِّي حَادِي الْعِيسِ؛ لِأَنَّهُ بِحِدَاهُ يَبْعَثُهَا عَلَى السَّيْرِ".
ثم ذكر بعدها كلامًا في أوجه إعجاز القرآن فلتراجع.
والمؤلفات في هذا الباب كثيرة معلومة، ومنها: "الإعجاز العلمي": والإعجاز العلمي سرٌ جعله الله لكتابه لتبقى الحجة قائمة على أهل كل زمان، وعلى أهل كل لسان؛ فقد وردت في القرآن إشارة، بل تصريح بحقائق علمية لم تكن معروفة قط في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يوجب لدى المنصف مِن المتأخرين أن يشهد بأن هذا الكتاب مِن عند الله.
ومِن أكثرها وضوحًا: "مراحل خلق الجنين"، والتي لم تعرفها العلوم التجريبية إلا بعد اكتشاف الأشعة بأنواعها؛ فوجدوا الوصف القرآني منطبقًا على الواقع، والأمر لا يحتاج أن نستكثر من الأمثلة كما يفعل البعض فيتعسف في تفسير الآيات لتوافق بعض الحقائق، بل وأحيانًا النظريات العلمية!
وينبغي أن يُعلم: أن القرآن كتاب هداية للبشرية لما يحتاجه الإنسان كإنسان، وليس لما يحتاجه مِن وسائل حياة، وإن وجدت هذه الآيات التي تتضمن حقائق علمية لتبقى معجزة القرآن متجددة، والاقتصار على أمثلة محدودة قطعية الدلالة أو ظاهرة الدلالة على الأقل أبلغ في إقامة الحجة، وفيها التزام بما يجب مِن الابتعاد عن القول على الله بغير علم.
2- خبر بعثة رسول يدعو إلى التوحيد ونبذ ما يعبد مِن دون الله كافٍ لتحريك دواعي النفس للبحث، ولا يصرفها عن ذلك إلا استحباب الدنيا على الآخرة:
يقو الإمام الغزالي -رحمه الله- في "فيصل التفرقة بيْن الإسلام والزندقة: "بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله -تعالى- (أعنى الذين هم في أقاصي الروم والترك) ولم تبلغهم الدعوة؛ فإنهم ثلاثة أقسام:
- صنف لم يبلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصلاً فهم معذورون.
- وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه مِن المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.
- وصنف ثالث بيْن الدرجتين بلغهم اسمه -صلى الله عليه وسلم- ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابًا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له المقفع تحدى بالنبوة كاذبًا فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه و هذا لا يحرك داعية النظر في الطلب".
إلى أن قال: "وأما سائر الأمم فمن كذبه بعد ما قرع سمعه على التواتر خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة كشق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء مِن بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة فعجزوا عنه، فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه، ولم يـتأمل ولم يبادر إلى التصديق؛ فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد الإسلام، بل أقول: مَن قرع سمعه هذا؛ فلا بد وأن ينبعث منه داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان مِن أهل الدين، ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين، وذلك كفر، وإن انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضًا كفر، بل ذو الإيمان بالله واليوم الآخر مِن أهل كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة، فإذا اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصِّر فأدركه الموت قبْل تمام التحقيق فهو أيضًا مغفور له، ثم له الرحمة الواسعة فاستوسع رحمة الله -تعالى- ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية".
ومع أن الإمام الغزالي -رحمه الله- هنا توسع في العذر كما هو موضوع كتابه أصلاً؛ إلا أنه قرر أن مَن بلغه القرآن ثم أعرض عنه؛ فإنه لا يفعل ذلك إلا استحبابًا للدنيا على الآخرة!
3- أن حجة الرسل متممة لحجة الفطرة والميثاق:
يقول الشيخ حافظ حكمي -رحمه الله- في "سلم الوصول":
اعْـلَـمْ بِـأَنَّ الــلَّـهَ جَـلَّ وَعَلَا لَمْ يـَتـْرُكِ الْخَـلْـقَ سـُـدًى وَهـَمـَلَا
بَلْ خَـلَقَ الْخـَـلْـقَ لِـيـَـعـْـبـُـدُوهُ وَبـِـــالْإِلَـــهِـــيَّــةِ يـُـــفْـــرِدُوهُ
أَخْرَجَ فِيمَا قَدْ مَضَى مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ذُرِّيَّـــــــتــــَــهُ كــَـــالـــذَّرِّ
وَأَخَــذَ الـْعـَهْـدَ عَــلَـيْـهِـمْ أَنـَّهُ لَا رَبَّ مَعـْبـُـودٌ بِــحقٍّ غَــيْـرَهُ
وَبَعْـدَ هَـذَا رُسْـلَـهُ قـَدْ أَرْسـَلَا لَـهـُمْ وَبِالْحَـقِّ الْـكـِتَـابَ أَنـْزَلَا
لِــكَـيْ بــِذَا الْعَـهْـدِ يُـذَكّـِرُوهُمْ وَيُـنـْــذِرُوهُــمْ وَيـُبَـشِّـرُوهُــمْ
كَيْ لَا يَكُونَ حُجَّةٌ لِلنـَّاسِ بَـلْ لـِلـَّهِ أَعــْلَى حُجـَّـةٍ عَـزَّ وَجَـلْ
فَـمَـنْ يُـصَـدِّقْهُـمْ بِـلَا شِـقَـاقِ فَـقَـدْ وَفـَـى بِــذَلِـكَ الْـمِـيثـَـاقِ
وَذَاكَ نَــاجٍ مِـنْ عَـذَابِ النَّارِ وَذَلِكَ الــْوَارِثُ عُـقْـبَـى الــدَّارِ
راجع شرح هذه الأبيات في معارج القبول للشيخ حافظ حكمي.
- وفي معناه ما ذكره الشيخ الشعراوي -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً)، فقال بعد شرح الآية وما في معناها مِن الآيات: "إذن: قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير -صلى الله عليه وسلم-.
وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا: إن كانت الحجة قد قامت على مَن آمن برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره.
نقول: لقد عرف الإنسان ربه -عَزَّ وَجَلَّ- أولاً بعقله، وبما ركّبه فيه خالقه -سبحانه- مِن ميزان إيماني هو الفطرة؛ هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود، وإنْ لم يأتِ رسول.
والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية:
هَبْ أنك قد انقطعتْ بك السُّبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد فيها أثراً لحياة، وغلبك النومُ فنمْتَ، وعندما استيقظتَ فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب.
بالله أَلاَ تفكِّر في أمرها قبل أن تمتدّ يدُك إليها؟ ألاَ تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عَمَّنْ أتى بها إليك؟
وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لا بُدَّ أنْ يهتديَ إلى أن للكون خالقاً مُبْدِعًا، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليدَ المصادفة، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالمًا مستوفيًا للمقوِّمات والإمكانيات، وجدنا أمام أعيننا آياتٍ كثيرة دالّة على الخالق سبحانه، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك. خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بُعْدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء، ما تخلَّفتْ يومًا، ولا تأخرت لحظة عن موعدها، أَلاَ تسترعي هذه الآية الكونية انتباهك؟
وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً بـ"أديسون" الذي اكتشف الكهرباء، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال، وهي عُرْضة للأعطال ومصدر للأخطار، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه؟
والعربي القُحُّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بَعْر البعير وآثار الأقدام استدلَّ بالأثر على صاحبه، فقال في بساطة العرب: البَعْرة تدلّ على البعير، والقدم تدلّ على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
إذن: بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقًا، وإنْ لم يعرف مَنْ هو، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون.
وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه، ويدلّه على ربه وخالقه، وأن هذه القوة الخفية التي حيَّرتْك هي (الله) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه، وهو سبحانه واحد لا شريك له، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يَدَّعِ أحد أنه إله مع الله، وبذلك سَلِمَتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لأن صاحب الدعوة حين يدَّعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها.
وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172).
وهذا هو العَهْد الإلهي الذي أخذه الله على خَلْقه وهم في مرحلة الذَّرِّ، حيث كانوا جميعًا في آدم -عليه السلام- فالأنْسَال كلها تعود إليه، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم، هذه الذرة هي التي شهدتْ هذا العهد، وأقرَّتْ أنه لا إله إلا الله، ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية.
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها، وهي تدعوه إلى معرفة الله: كيف تشعر بالجوع فتطلب الطعام؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء؟ أرأيت الجوع أو لمسْتَه أو شَمَمْته؟ إنها الفطرة والغريزة التي جعلها الله فيك؛ فلماذا استخدمت هذه، وأغفلت هذه؟!
والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله مِن حوله بكل ذراته يُسبِّح بحمد ربّه، فذراتُ الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبِّح بحمد ربها، كما قال -تعالى-: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء:44)، فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مُسبّحة، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته، فترى المؤمن مُنْسجمًا مع نفسه مع تكوينه المادي".
إلى أن قال: "ونعود إلى قوله الحق سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً)، فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه، فمن الذي يُعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه منه، إذن: لا بُدَّ من رسول يُبلِّغ عن الله، ويُنبِّه الفطرة الغافلة عن وجوده -تعالى-".
4- بيان أن الله ذم مَن أبى واستكبر، وعذر مَن لم تبلغه رسالة الإسلام؛ فلا بد مِن التفريق بينهما:
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في طريق الهجرتين: "إن العذاب يُستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة العمل بموجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن مِن معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله -سبحانه وتعالى- التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل".
ويوضح هذا فتوى الشيخ "عبد الله بن بيه" حول عدم عذر مَن بلغه خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في زماننا، فأجاب بإجابة وضح فيها الفرق بين عدم البلاغ الذي يعد عذرًا وبين الإباء والاستكبار، فقال: "الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
يبدو أن السؤال يرجع إلى: هل الإسلام يصل إلى الناس كافة؟ والجواب: أن الإسلام لم يصل إلى الناس كافة، لكنه قد يصل إلى الناس كافة؛ لأنه جاء في الحديث: "لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل" رواه الإمام أحمد (16957) والبيهقي في السنن (9/181) والطبراني في الكبير (1280). فالدين سيدخل، ووسائل الإعلام الآن وما يسمى بالعولمة الإعلامية، وأن تكون الأرض كالقرية الواحدة كل هذا يمثل سبيلاً إلى إدخال الإسلام إلى كل بيت، فيجب على المسلمين أن يبذلوا جهدًا لإيصال الإسلام إلى الغير.
أما هل وقع ذلك فعلاً فقد لا يكون كذلك، والذين يعاقبون ويستحقون النار هم مَن بلغهم هذا الدين ولم يؤمنوا به، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي: لأنذر به مَن بلغه، حتى ولو لم يرني ولم يشافهني فيه، فمن بلغه القرآن فهو منذر به، إذن القرآن بين أيدينا فيجب أن نبلغه إلى الناس كافة، فإذا بلغ إليهم القرآن قامت عليهم الحجة، ومن لم يبلغ إليهم القرآن لا تقوم عليهم حجة ويصبح حالهم مشابهًا لحال أهل الفترة، وهم الذين سبقوا عهد الرسالة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً)، ويقول: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) (الملك:8-9)، فالله -سبحانه وتعالى- أرسل الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، والشخص الذي لم يُبلغ فهذا لا تقوم عليه الحجة، إنما الحجة تكون قائمة وتامة وبالغة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام:149)، إذا بلغت الرسالة ولم يؤمن بها، إما تعصبًا أو إعراضًا عنها، أو بغضًا لها، أو كفرًا بها وجحدًا، كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14)، جحدوا بالآيات مع أن النفوس مستيقنة والبواطن ترى الحقيقة بصائر، لكنهم يعمون عنها أبصارهم (يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) (هود:5)، لا يريدون أن يروا الحقيقة، وقد يكون كثير مِن الكفار الآن في هذا الوضع، قد يكون بعضهم قد استبصر، أي: ظهرت له الحقائق، ولكنه ألِف العادة، ولمحبته الرئاسة ولبغض المسلمين يعلوه التعصب وتغشاه عماية الضلالة؛ فيعرض عن التدبر في كتاب الله، فهذا الإعراض عن التدبر مع إمكانه والإعراض عن الرسالة مع القدرة على التعرف عليها صاحبه لا شك سيكون معاقبًا (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
طبعًا التعبد في الدنيا هو تعايش، ولا يكره أحد على دينه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، وهذا هو موقفنا وهو خطاب هنا ودعوة هناك، ولكن ليس معنى ذلك أن يكون الحق متعددًا، وكل مَن يؤمن بشيء فالحق عنده واحد، فالحق هو هذا الدين الذي هو الدين الخاتم، وهو الدين المهيمن على الديانات الأخرى. هذا باختصار هو جواب هذا السؤال".
5- بيان أن واجبنا إبلاغ الحق إلى الخلق وإزالة ما يعرض لهم مِن شبهات:
يرى بعض الأفاضل أن القول بعذر بعض الأوربيين مِن باب أن الدعوة لم تبلغهم أو بلغتهم مشوهة قد يساهِم في إعطاء انطباع جيدٍ عن الإسلام، وإزالة الصورة الذهنية التي ارتبطت به نتيجة جرائم "داعش" وغيرها، وهي نية حسنة، ولكن تحتاج إلى مراجعة على أكثر مِن صعيد:
الأول: الالتزام بما ورد في الكتاب والسُّنة بفهم سلف الأمة في حدود العذر بعدم البلاغ، والفرق بينه وبين كفر الجحود وكفر الإباء والاستكبار.
الثاني: تعظيم القرآن المعجزة الخالدة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
الثالث: فرض أنهم لم تبلغهم الدعوة يعني أنهم لن يبلغهم مثل هذا الكلام، وإذا كان سيصلهم كلامنا؛ فالأولى أن يصل كلام في بيان معالم الدعوة التي تدفعهم إلى التفكر والتأمل الذي يقودهم إلى الإيمان، وفي الواقع فإن مثل هذا الكلام لن يصل إلا إلى معاندين؛ فيزيدهم غرورًا، ويمنون به أنفسهم أنهم ناجون أو غير مؤاخذين عند الله.
الرابع: عذر مَن لم تبلغه الدعوة يتضمن أمرين:
أ- في الحرب بدؤه بالدعوة قبْل القتال واجبة، بخلاف مَن بلغته الدعوة؛ فإن دعوته إليها قبْل القتال مستحبة.
ب- أنه ناج يوم القيامة على مذهب الأشاعرة أو على الصحيح مِن عقيدة أهل السُّنة أنه مِن أهل البلاء والاختبار يوم القيامة.
والنقطة الثانية هي مِن أفعال الله وليست حكمًا تكليفيًّا للعباد، وليس علينا إلا اعتقاد هذه العقيدة في الجملة وإن لم نحقق مناطها في بعض الأشخاص.
والنقطة الأولى: الواقع الآن عدم جريان قتال، ويبقى أن نسعى إلى أن ندعوهم، وأن نبيِّن لهم عظمة القرآن، وإعجاز القرآن، وفطرية التوحيد ودلائل صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومعالم كمال شريعته، وما أثبتته التجارب مِن شمولها ووسطيتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وفي النهاية: أرجو أن يكون هذا العرض لهذه المسألة، والذي حرصتُ على أن أضمنه أقوال بعض العلماء ممن لا يُحسبون على التيار السلفي حيث يتصور كثير مِن الناس أن كثيرًا مِن قضايا الدين هي مما انفرد به "السلفيون"؛ فيخالف فيها بكل "أريحية!" في حين أنك تجد أن هذه المسائل موجودة في فقه الأئمة، وموجودة في كلام كثير مِن علماء الأزهر، بل ويقول بها بعض مَن يشار إليهم كممثلين للوسطية والاعتدال في زماننا.
نسأل الله أن يرينا الحق حقـًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل، وأن يجعلنا للمتقين إمامًا.