كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
القضية الثانية التي هي من الثوابت، هي قضية إن الحكم إلا لله: فالتشريع من صفات الربوبية ومن حقوق الإلهية؛ ولذلك فمن الشرك والكفر والنفاق: إعطاء حق التشريع لغير الله -سبحانه وتعالى-، وهذه قضية لا تحتمل خلافًا، وقضية الحكم بما أنزل الله تابعة لهذه المسألة.
وهذه المسألة ككل قضايا العقيدة كثر بيانها في القرآن بأنواع متعددة من البيان؛ قال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 26)، وكلاهما دال على أن الحكم لله -عز وجل-، وأن مَن جعل مع الله من يحكم غير حكمه فهو مشرك.
وقال -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام: 121)، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا . وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 60-65).
وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47).
هذه القضية ليست محل نزاع عند أهل السنة من جهة تأصيلها الشرعي، وقد نقل الإجماع على كفر من تحاكم إلى شريعة غير شريعة الإسلام غير واحد من أهل العلم؛ منهم: ابن كثير -رحمه الله- الذي قال عن الياسق أو الياسا: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر؛ فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدَّمها عليه؟! مَن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين" (البداية والنهاية).
وقال في التفسير (3/131): "كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
وقال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: "يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله -عز وجل- على ألسنة رسله -صلى الله عليه وسلم-، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم".
وواضح أن مثل هذا الكلام لا يقال في مسألة خلاف سائغ.
وقد سألتُ الشيخ ابن باز رحمه الله مشافهة في أواخر السبعينيات، فقال: "فصل الدين عن السياسة كفر مستقل".
وقال -رحمه الله- فيمَن يتخذون أحكامًا وضعية تخالف حكم القرآن: "وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين، والردة السافرة... وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله ولا ترضاه؛ فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة".
وغير ذلك من الكلمات التي قد نقلها أهل العلم في هذا الباب.
الغرض المقصود: أن موقف الدعوة كان عبر الزمان موقفًا واضحًا ممن جحد الشريعة أو فضَّل القوانين الوضعية على الشريعة؛ سواء كان تفضيلًا مطلقًا أو نسبيًّا (والتفضيل النسبي هو: أن يفضلها بالنسبة لزماننا وإن اعتقد أن الشريعة كانت مناسبة لزمان مضى)، أو ساوى بين الشريعة وبين القوانين الوضعية، أو جوَّز مخالفة الشريعة ولو أقر بأفضليتها، أو ألزم الناس في التشريع العام وأوجب عليهم مخالفة شرع الله -عز وجل- وهذه من أقبحها؛ سواء أكان مكتوبًا في قوانين ودساتير، أو كان أمرًا عرفيًّا مصطلحًا عليه... فكل هذا من الكفر الأكبر من جهة النوع.
وأما الذي يسوغ فيه الخلاف: فمسألة تكفير المعين؛ ذلك أنه مبني على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع الذي يحكم به أهل العلم أو أهل القضاء الشرعي، وهذا موقفنا الذي أعلناه في ظل شدة الأحوال حينما كان يُمنع الكلام في هذه القضية، وما زال -بحمد الله- كما هو لم يتغير فيه شيء.
وأما مسألة إثبات ولاية الأمر: فهي مبنية على هذه المسألة؛ أعني مسألة إقامة الشرع وتحكيمه، وهي غاية في الأهمية أيضًا، وموقف الدعوة كان -ولم يزل- واضحًا محددًا؛ أن ولاية الأمر لا تثبت إلا لمن قاد الناس بكتاب الله -تعالى- في الجملة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) (رواه مسلم).
وبيَّن أهل العلم أن مقصود الولاية: إقامة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وهذا الأصل مأخوذ من قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59)، فقوله -تعالى-: (مِنْكُمْ) يدل على أنه لا بد أن يكون مِنَّا نحن المسلمين لا من غيرنا؛ كالكافرين والمنافقين.
وفي صفهم بـ(أُولِي الْأَمْرِ) مع معرفة أن أمرنا عصمته أمر ديننا، كما ثبت في الحديث الصحيح: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) (رواه مسلم)، دليل على أن الذي يتولى أمرنا هو الذي يكون على ديننا.
ومما نص عليه أهل العلم في مواطن مختلفة لا اختلاف بينهم فيه: أن ثبوت الإمامة والولايات الشرعية مبني على تحقيق مقاصد الولاية؛ وهي: إقامة الدين، وسياسة الدنيا بالدين.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم".
وقال الجويني: "فإن مقصود الإمامة: القيام بالمهمات، والنهوض بحفظ الحوزة وضم النشر، وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالئة، فإذا تحقق عسر ذلك لم يكن الاتسام بنبز الإمام معنى".
وهذا نص صريح يبيِّن فهم السلف لمقصود الإمامة، وأنه لا يمكن أن يوصف بها من تأتي أفعاله على مقصودها بالنقض.
أما مسألة الخروج ومقاتلة الحكام -سواء ثبتت ولايتهم شرعًا أو لم تثبت-: فهي من باب تغيير المنكر؛ ولذلك فهي مبنية على مسألة القدرة والعجز، والمصلحة والمفسدة.
وهذه كلها مسائل ثابتة لم يتغير فيها موقف الدعوة -بحمد الله تبارك وتعالى-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.