الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 28 ديسمبر 2025 - 8 رجب 1447هـ

عواقب الكلمة! (2)

كتبه/ سالم أبو غالي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان الصالحون يراقبون ألسنتهم أشد من مراقبتهم لأعمالهم، فكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يؤدب لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، أي: كاد أن يهلكني.

فمحاسبة النفس على الكلمة باب من أبواب النجاة، فكم من كلمة خرجت فحرمت صاحبها الجنة، وكم من أخرى حسبت في ميزان الحسنات ففتحت له أبواب الرضوان.

الكلمة قد تكون جسرًا من نور يصل بين القلوب، وقد تكون نارًا تحرق ما بين الناس من محبة: فبالكلمة الطيبة نفسد مخططات الشيطان في التحريش بيننا وبين إخواننا؛ امتثالًا لأمر الله -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء: 53)، فقولُ الكلمةِ الحسنةِ عِبادةٌ، والكلمةُ الخبيثةُ فِتنة، وبين الكلمتين طريقانِ لا يلتقيان.

ومِن أعظمِ الذنوبِ: أنْ يُطْلَقَ اللسانُ في أعراضِ الناس، أو يُتَّخَذَ سِلاحًا للطعنِ في العلماءِ والدُّعاة، فالعلماءُ ورثةُ الأنبياء، والكلامُ فيهم ليس كالكلامِ في غيرهم، لأنَّ الطعنَ فيهم طعنٌ في دِينِ اللهِ الذي يحمِلونَه.

قال الحافظُ ابنُ عساكرَ -رحمه الله-: "اعلمْ يا أخي أنَّ لحومَ العلماءِ مسمومةٌ، وعادةَ اللهِ في هَتْكِ أستارِ مُنتقصِيهم معلومةٌ". وقال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب: 58).

ثمَّ تأتي الغِيبةُ والنميمةُ لتُكْمِلا خَطَرَ اللسان، فالغِيبةُ أنْ تذكُرَ أخاكَ بما يَكْرَه: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل عنها: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، فقِيلَ: أفرأيتَ إنْ كانَ فيهِ ما أقولُ؟ قال: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم). وشَبَّهَ اللهُ الغِيبةَ بأبشَعِ صورةٍ، فقال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12).

أمَّا النَّميمةُ: فهي بريدُ الشيطان، تَنقُلُ الكلامَ لتزرعَ الفِتنةَ، وتُشعِلَ الأحقاد، ففي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ). وقال -تعالى-: (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم: 11)، فَكَمْ مِن بيوتٍ تهدَّمَتْ، وقلوبٍ تفرَّقَتْ، بسببِ كلمةٍ خرجتْ مِن فَمٍ غافِلٍ عن الله!

ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمُعاذٍ -رضي الله عنه- لمَّا سأَلَهُ عن عملٍ يُدخِلُهُ الجنةَ، فأخذَ بلسانِه وقال: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا). فقال: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخَذُونَ بما نتكلَّمُ به؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

احفظْ لسانَكَ ولا تُطلِقْهُ إلَّا في خير، فالصمتُ في مَوْضِعِ الفِتنةِ عِبادةٌ، والكلمةُ الطيِّبةُ صدقةٌ؛ قُلْ خيرًا أوِ اصْمُتْ، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه)، فالكلمة إذا خرجت من قلب صادق كانت نورًا، وإن خرجت من قلب مريض كانت نارًا.

ونصيحة من قلبي: عند الاختلاف كن في كلمتك لينا من غير ضعف، ثابتا على الحق من غير تشدد. واقبل اختلاف الناس، واذكر دائمًا أن الهداية ليست بيدك، وإنما دورك هو الإنكار بالحكمة وحدها. وتعامل مع اختلاف الناس معك على أنه امتحان لحلمك وسعة صدرك، وإن أسديت نصحًا، فليكن نصحك على هيئة هدية لطيفة، لا حكمًا قاسيًا، فهكذا تكون الدعوة.

وانهَ عن المنكر دون أن تجرح صاحبه، واجعل أخلاقك أول رسالة تسبق كل كلمة تخرج من فيك. واثبت على الحق، ولكن قدمه في أجمل صورة، ودعك من محاكمة الناس، واطلب رضا رب الناس. واعلم أن التغيير يحتاج صبرًا، فلا تستعجل الثمرة. وانظر إلى الخطأ على أنه فرصة للتعليم، لا وسيلة للعقاب. وكن قدوة في نصيحتك، فالقلوب تهتدي بالفعل أكثر مما تهتدي بالكلام. ولا تنس أن الله يصلح بالرفق، وأن القلوب لا تفتح إلا بمفتاح اللين، فالرفق ليس ضعفًا، بل هو طريقة لتغيير القلوب إلى الأحسن.

وإن رفض أحدهم نصيحتك، فدع الباب مفتوحًا، فلعله يعود بعد حين بسبب صبرك وحكمتك، فكلمة قصيرة في وقتها قد تصنع أثرًا أعظم من خطبة طويلة، فكن مع الحق دائمًا، وحافظ في الوقت نفسه على قلب من تخاطب، ولا تهاجم الشخص، بل خاطب الفعل، ليقدر قلبه أن يسمع منك.

وابدأ بإصلاح نفسك قبل غيرك.

أصلح قلبك، يصلح الله بقلبك قلوب الذين من حولك.