نصائح وضوابط إصلاحية (71)
كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
من آداب النصيحة والتقويم:
من الآداب التي نحتاج إلى أن ننبِّه عليها داخل الكيانات الإصلاحية على وجه الخصوص، ويجب مراعاتها عند النصيحة وتقويم الخطأ بدقة ما يلي:
أ- حفظ الفضل لأهل السبق واحترام القيادة وحفظ حقها:
فلا يصح أن يتناسى الأتباع والشباب في المؤسسات الإصلاحية، ما بذله الكبار والقادة في السابق، وما يبذلونه في الواقع والحاضر من جهد وبذل في سبيل الإصلاح، والمحافظة على الكيان ومصلحة الأتباع، ولا ينبغي أن يتعرض القادة للانتقاص من الأتباع؛ لمجرد وقوع بعض الأخطاء منهم بحكم بشريتهم، فهم بشر معرَّضون للخطأ، بل يجب السعي في إصلاح الأخطاء من غير تنقص، أو تحويل الأمر إلى قضية شخصية.
فعن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: خرجت معَ زيدِ بن حارثةَ في غزوةِ مؤتةَ فرافَقني مددٌ من أَهلِ اليمَنِ ليسَ معَهُ غيرُ سيفِهِ، فنحرَ رجلٌ منَ المسلمينَ جزورًا، فسألَهُ المدديُّ طائفةً من جلدِهِ فأعطاهُ إيَّاهُ فاتَّخذَهُ كَهيئةِ الدَّرَقِ ومضَينا، فلقينا جموعَ الرُّومِ وفيهِم رجلٌ على فرسٍ لَهُ أشقرَ عليْهِ سرجٌ مُذْهَبٌ وسلاحٌ مُذْهبٌ، فجعلَ الرُّوميُّ يُغري بالمسلمينَ فقعدَ لَهُ المددِيُّ خلفَ صخرةٍ فمرَّ بِهِ الرُّوميُّ فعرقبَ فرسَهُ فخرَّ وعلاهُ فقتلَهُ وحازَ فرسَهُ وسلاحَهُ، فلمَّا فتحَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- للمسلمينَ بعثَ إليْهِ خالدُ بن الوليدِ فأخذَ منَ السَّلَبَ. قالَ عوفٌ فأتيتُهُ فقلتُ: يا خالدُ، أما علمتَ أنَّ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- قضى بالسَّلَبِ للقاتلِ؟! قالَ: بلى، ولَكنِّي استَكثرتُه. قلتُ: لتردَّنَّهُ عليْهِ أو لأعرِّفنَّكَها عندَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- فأبى أن يردَّ عليْهِ. قالَ عوفٌ فاجتمعنا عندَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- فقصصتُ عليْهِ قصَّةَ المدديِّ وما فعلَ خالدٌ، فقالَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ-: (يا خالدُ، ما حملَكَ على ما صنعتَ؟)، قالَ: يا رسول الله لقدِ استَكثرتُه. فقالَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ-: (يا خالدُ، رُدَّ عليْهِ ما أخذتَ منْه)، قالَ عوفٌ: فقلتُ لَهُ: دونَكَ يا خالدُ، ألم أقُل لَكَ؟! فقالَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ-: (وما ذلِكَ؟)، فأخبرتُهُ، قالَ: فغضِبَ رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- فقالَ: (يا خالدُ لا تردَّ عليْهِ، هل أنتم تارِكونَ لي أمرائي؟ لَكم صفوَةُ أمرِهم وعليْهم كدَرُهُ) (أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
فهذا موقف عظيم منه -صلى الله عليه وسلم- في حماية القادة والأمراء من أن يتعرَّضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بَشَر معرَّضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقص ولا إهانة؛ فخالد -رضي الله عنه- حين منع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه، وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عددًا أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك رضي الله عنه أدَّى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك؛ لأنه والحال هذه قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يديه، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حوَّل القضية من قضية إصلاحية إلى قضية شخصية؛ فأظهر شيئًا من التشفي من خالد -رضي الله عنه-، فلم يقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، بل أنكر عليه إنكارًا شديدًا، وبيَّن حق الولاة على جنودهم.
وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر خالدًا بعدم ردِّ السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنسانًا بجريرة غيره، فلا بد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضا، إما بتعويض عن ذلك السلب، أو بتنازل منه، أو غير ذلك فيما لم يذكر تفصيله في الخبر" (ينظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث).