كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أهم الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن يطرق أبواب الخير، ويتعرَّض لنفحات رحمة الله في مواسم الخير والبركة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ) (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني).
ومن أَجَلِّ مواسم الخير والبركة وأعظمها: شهر رمضان المبارك؛ فعلى المسلم أن يستعد لاستقباله بالأعمال الصالحة، وتهيئة النفس للطاعة والعبادة والاستقامة.
قال معلَّى بن الفضل: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يُتقبَّل منهم".
وقال يحيى بن أبي كثير واصفًا حال السَّلف: "كان من دعائهم: اللَّهم سلِّمْنِي إلى رمضان وسلِّم إليَّ رمضان، وتسلمه منا متقبلًا".
وقد جعل السلف الصالح -رضوان الله عليهم- شهر رجب بداية الاستعداد الخاص لشهر رمضان المبارك: فكانوا يحرصون جدًّا على الاستعداد لرمضان بدءًا من شهر رجب؛ فكأنه عندهم بمثابة صيحة نذير، أو جرس إنذار، لأخذ أهبة الاستعداد لرمضان.
وقد تعدَّدت عباراتهم في ذلك: قال أبو بكر الوراق البلخي: "شهر رجب شهر للزرع، وشعبان شهر السقي للزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع". وعنه قال: "مثل شهر رجب مثل الريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل القطر". وقال بعضهم: "السَّنة مثل الشجرة، وشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها" (ينظر: لطائف المعارف).
وقيل في شهر رجب:
- "رجب لترك الجفاء، وشعبان للعمل والوفاء، ورمضان للصدق والصفاء.
- رجب شهر التوبة، وشعبان شهر المحبة، ورمضان شهر القربة.
- رجب شهر الحرمة، وشعبان شهر الخدمة، ورمضان شهر النعمة.
- رجب شهر العبادة، وشعبان شهر الزهادة، ورمضان شهر الزيادة.
- رجب لترك الآفات، وشعبان لاستعمال الطاعات، ورمضان لانتظار الكرامات؛ فمن لم يترك الآفات، ولم يستعمل الطاعات، ولم ينتظر الكرامات؛ فهو من أهل الترهات" (ينظر: الغنية لطالبي طريق الحق).
وشهر رجب أحد الأشهر الحرم؛ فهو مِن الأزمنة التي لها حُرمة عظيمة عند الله؛ قال -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة:36).
وإذا كان قبيح بالعبد أن ينتهك حرمات الله ويعصيه في أي وقتٍ؛ فإن ذلك يزداد قبحًا وسوءًا في هذه الأزمنة الفاضلة (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
وما السَّنة إلا كشجرة تظهر أوراقها في شهر رجب، وتثمر في شهر شعبان، ويأخذ الناس من ثمارها في شهر رمضان؛ فعلى المؤمن أن يستعد بالأعمال الصالحة في رجب، وأن يتعاهدها بالتجويد والإتقان في شعبان، لكي يستطيع الإتيان بها على أكمل الوجوه في رمضان.
تنبيهات:
يتناقل الكثيرون أن الحسنات والسيئات تتضاعف في رجب؛ استدلالًا بقوله -تعالى- عن الأشهر الحرم: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، على أحد وجهي التفسير في الآية الكريمة أن الضمير في (فِيهِنَّ) يعود على الأشهر الحرم خاصة، لكن الراجح أنه يعود علىِّ كل الأشهر، فالآية لا دليل فيها على مضاعفة الحسنات والسيئات، وإنما تدل على حرمة الظلم، وهو محرم في كل الشهور.
- لم يثبت تخصيص شهر رجب بعبادات معينة؛ مثل: صلاة الرغائب، أو الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج -ظنًّا ثبوته ليلة السابع والعشرين من رجب-، أو تخصيص يومها بالصيام، أو اعتقاد فضل في زيارة القبور في أول خميس من رجب، وعمل بعض الأطعمة وتوزيعها على روح الميت.
- لم يثبت فضل خاص لشهر رجب على سائر الشهور، كما اشتهر عند الكثيرين فضائل مخصوصة لشهر رجب، بناءً على أحاديث رويت، لكنه لم يثبت في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فضيلة خاصة لشهر رجب، وأشهر هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: حديث: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي"، وحديث: "فضل رجب على الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام"، وحديث: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان".
- وكذلك لم يثبت تخصيص شهر رجب بالصيام أو بالإكثار منه فيه، أما الصيام في أوله؛ فلا حرج في أن يصوم الإنسان مِن غرة الشهر الهجري عمومًا؛ لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لرجل مِن أصحابه: (هَلْ صُمْتَ مِنْ سِرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا)؟ -يَعْنِي: شَعْبَانَ- قَالَ: لاَ. فَقَالَ لَهُ: (إِذَا أَفْطَرْتَ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ) (متفق عليه).
وكذلك صيام ما ورد في السُّنة: مِن صيام الاثنين والخميس، وأيام البيض الثلاثة، أو صيام كان يعتاده الإنسان فيصومه؛ فلا بأس بذلك.
وعلى الجملة: ينبغي في هذا الشهر الحرام أن يعمِّر المسلم هذا الزمان بالتوبة والاستغفار، والابتعاد عن الآثام، وأن يكثر مِن الذكر وتلاوة القرآن، وألوان النوافل والطاعات (فضلًا عن المحافظة على الواجبات)؛ استعدادًا لاستقبال شهر رمضان المبارك.
نسأل الله -تعالى- أن يبلغنا رمضان، وأن يبارك لنا فيه، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.