الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 02 ديسمبر 2025 - 11 جمادى الثانية 1447هـ

عواقب الكلمة! (1)

كتبه/ سالم أبو غالي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالكلمةُ رُوحٌ تسري في الوجود؛ بها تُبنى القلوبُ أو تُهدَم، وبها تُصلَحُ الأُممُ أو تفسُد، وبها يُرفَعُ الإنسانُ أو يُهان. فما الكلمةُ إلَّا مرآةُ القَلْب، إنْ صفا نطقتْ بالخير، وإنِ اسودَّ أخرجتْ سُمًّا زُعافًا؛ قال الله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18). فما من حَرْفٍ يَنطِقُ به اللسانُ إلَّا ومَلَكانِ يسجِّلانه، لا يضيعُ منه شيء، وسيُعرَضُ على صاحبه يومَ يَلْقَى الله.

كمْ من كلمةٍ صادقةٍ رفعتْ صاحِبَها درجاتٍ في الجنة، وكمْ من كلمةٍ جائرةٍ أسقطتْ قائِلَها في دَرَكاتِ النار؛ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ ‌بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ ‌بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) (رواه البخاري)، إنَّ الكلمةَ قد تُطلَقُ في لحظةِ غضبٍ، فتهدِمُ بيتًا، وتُفرِّقُ قلبَيْن، وتُشعلُ نارَ الفِتنة، بينما كلمةٌ أُخرى تُقالُ بصِدقٍ ورحمةٍ قد تُطفئُ نارًا مُشتعِلةً، وتُعيدُ المودَّةَ بعد طولِ فِراق.

وقِيلَ: إنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ -رضي الله عنه- قال: "مَنْ كَثُرَ كلامُه كَثُرَ سَقَطُهُ".

إنَّ هذا اللِّسانَ ما خَلَقَه اللهُ عَبثًا، بل جعَلَه طريقًا إلى الخيرِ أو إلى الشرِّ، إلى رَوْحٍ وريحانٍ أو إلى دَرَكاتِ الجحيمِ والنيران؛ هذا اللسانُ الذي إذا حَرَّكَه قَلْبٌ يخافُ اللهَ ويخشاه لم تَسْمَعْ منه إلَّا طَيِّبًا، وإذا أُطلِقَ له العنانُ بلا وازِعٍ من تقوى كان سببًا في الهلاكِ والخُسران. هذا اللسانُ الذي إذا استقامَ للهِ -جلَّ وعلا- استقامتْ مِن بعدِهِ جوارِحُ الإنسان، وإذا انحرفَ هَوَى بصاحبِه في المَهالِك.

فالكلامُ أسيرُكَ ما دامَ في فَمِك، فإذا خَرَجَ مِن فيكَ صِرْتَ أنتَ أسيرَه. ومِن أجلِ ذلك امتَنَّ اللهُ -تعالى- على نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- باللِّين، فجعَلَه خُلُقًا فيه؛ فقال -سبحانه-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).

فإذا كانتِ الكلمةُ ليِّنةً رقيقةً، ورافَقَها لِينٌ في التعاملِ، فإنها تُلامِسُ الوِجْدانَ وتَهُزُّ المشاعرَ، وتَنفُذُ إلى القَلْبِ والعَقْل. ومِن ذلك قِصَّةُ الأعرابيِّ الذي بالَ في المسجد، فانتهرَهُ الناسُ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهُ)، ثمَّ دعا بِذَنُوبٍ مِن ماءٍ فأُهْرِيقَ على بَوْلِه، ثمَّ دعا الأعرابيَّ وعَلَّمَه بِرِفْقٍ، فقال الأعرابيُّ بعد ما فَقِه: فَواللهِ ما رأيتُ مُعلِّمًا قَبْلَه ولا بعده أحسنَ منه بأبي هو وأُمِّي، لم يَسُبَّ ولم يُعَنِّفْ، وإنَّما قال: (إِنَّ هَذِهِ المَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ، وَلَا القَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ) (متفق عليه).

هكذا تكونُ الكلمةُ الليِّنةُ سبيلَ الهداية، وهي التي تُغْلِقُ بابَ الشيطانِ وتفتحُ بابَ الرحمة، وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). فسمَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الدعوةَ وبيانَ الحقِّ جِهادًا، لأنَّ الكلمةَ إذا خرجتْ للهِ كانتْ سَهْمًا مِن سِهامِ النُّور، تهدي القلوبَ وتَرُدُّ الضالِّينَ إلى صِراطِ اللهِ المُستقيم.

فالكلمةُ إذًا ليستْ شيئًا يُلفَظُ فيُهْمَل، أو يُودَعُ في عالَمِ النِّسيان، كلَّا، بل هي شأنٌ عظيمٌ، ذاتُ أثَرٍ باقٍ، ولها تَبِعةٌ دُنيويَّةٌ وأُخرويَّة، فإنها مُسجَّلةٌ ومكتوبةٌ، لنْ تضيعَ أبدًا.

الكلمةُ أمانةٌ ضخمةٌ في دِينِ اللهِ تعالى، ونحنُ جميعًا مسؤولونَ عنها بين يدَي الله، قال -تعالى-: (عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) (طه: 52).

وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديثِ الصحيحِ عن سَهْلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ -رضي الله عنه-: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ) (رواه البخاري). وما بين لَحْيَيْهِ هو اللسان، فَكَمْ في اللسانِ مِن خَطَرٍ لو عَلِمَهُ الناسُ لَسَكَتُوا إلَّا بِخَيْر. ونَهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن الثَّرثرةِ والكلامِ فيما لا يعني، فعن المغيرةِ بنِ شُعْبةَ -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) (متفق عليه).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.