كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد دخلت أمتنا ودعوتنا بطبيعة الحال مرحلة جديدة لها ما بعدها، ولربما صدقت مقولة البعض: "هذه الشهور الثلاثة ربما تعدل عمل الثلاثين سنة الماضية، وربما تؤثر على ثلاثين سنة مستقبلة أو أكثر من ذلك".
ولذلك لا بد أن يكون لنا في هذا المقام علم عميق بفقه المرحلة، وإرادة صادقة في نصر الدين، وإخلاص لوجه الله -عز وجل-، وجدية في السير في الطريق الذي نسأل الله -عز وجل- أن يلهمنا الرشد فيه، فإن القرارات في هذه المرحلة الحساسة؛ إن لم تكن بعلم وبصيرة، وصدق وإخلاص، ترتَّب عليها خلل كبير ربما يتعدَّى أثره لعدة أجيال قادمة.
والقرارات التي تتخذ في مثل هذه المواقف لا بد أن يتجرد مَن يتخذها لله -سبحانه وتعالى-؛ حتى لا يكون قراره مبنيًا على جهالة أو على اتباع هوى، أو على رغبة في جاه أو ملك أو رئاسة؛ فإن ذلك من الأمراض الخطيرة التي تصيب الأمم في مرحلة الانتقال من الاستضعاف إلى التمكين، وقد بيَّن الله -عز وجل- ذلك في طوائف كثيرة؛ قال -تعالى-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247).
ولا بد لنا أيضًا أن نعمل في هذه المرحلة وَفْق ما دَلَّ عليه قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، فلا بد أن نعمل بناءً على ما وصل إليه أهل العلم بعد تشاورهم، نسأل الله عز وجل أن يسددهم ويسدد كل المسلمين، كما أمر الله -عز وجل-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بغيره؟!
فهذا ما ينبغي أن نسير عليه في كل هذه القضايا الحساسة ونقاط الافتراق.
ولمناقشة هذه القضية "قضية العمل السياسي": لا بد أن نحدِّد أولًا بعض الثوابت التي لا تتغير بتغير الظروف والأحوال؛ ولذلك فنحن لم ولن نتنازل عنها بإذن الله -تبارك وتعالى-، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.
ومن هذه الثوابت:
شمول الإسلام لكل نواحي الحياة: فلا تخرج سياسة الأمة وقيادتها، وأنظمة حياتها، وأنظمة حكمها عن قضية العبودية لله -سبحانه وتعالى-؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)، وقال أيضًا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
ومحاولات فصل الدِّين عن السياسة والحكم محاولات قديمة، فمنذ عهود الاحتلال عندما جاءت جيوش الكفار إلى بلاد المسلمين، بل وقبل ذلك، وهم يحاولون ترسيخ ذلك عبر أدبيات ومؤلفات ومناظرات؛ فضلًا عن أجهزة الإعلام، وأجهزة البطش والتنكيل، حتى يتحول فكر المسلمين وليس فقط سلوكهم وعملهم إلى فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الحكم، وقد صرَّحوا بذلك مرات عديدة في العهود البائدة منذ ثورة 1919م.
ثم بعد ذلك ما كان من عهود الملكية، ثم كان في عهد عبد الناصر وعهد السادات ثم مبارك، والمسلمون يسمعون كثيرًا: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين!"، ويسمعون كذلك: "أن السياسة لعبة قذرة ورجس، لا بد وأن يبتعد عنه أهل التَّدَيُّن!".
وقد تأكد ذلك في حسِّ العامة -لا العاملين في الحقل الإسلامي فحسب-: بسبب وجود محاذير كثيرة فُرِضت فرضًا على مَن شارك في العمل السياسي حتى صار الناس لا يعرفون من السياسة إلا أقذر ما فيها، فترفَّع كثيرٌ من الدعاة والعلماء عن المشاركة، ليس لأن الدين لا يشمل السياسة، ولكن لأجل أن آليات المشاركة كانت تفرِض عليهم أن يتنازلوا عن ثوابتهم ليتلطخوا بأوزار السياسة وطرقها الملتوية الخبيثة، حتى قال بعض أهل العلم المقولة المشهورة: "من السياسة ترك السياسة!".
لكن ترسخ عند الناس ذلك؛ حتى إن كثيرًا من العامة والخاصة، وأهل التدين، ينظرون إلى السياسة نظرة توجس وتخوف، واقترنت في حسهم المشاركة السياسية بالرغبة في الرياسة والجاه والملك، ولربما صارت المشاركة في الأحزاب عند كثير من المتدينين بمنزلة التهمة بكبائر الذنوب!
فنقرِّر أولًا: أن شمول الإسلام لكل نواحي الحياة قضية ثابتة لا تحتمل الأخذ والرد؛ قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59).
وهذه القضية العظيمة قضية السياسة الشرعية جزء من الفقه الإسلامي؛ أدلته من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ فقد أجمعوا على وجوب الإمامة والخلافة، وأنه لا بد أن يكون للمسلمين خليفة واحد وحاكم واحد.
هذا هو الواجب الشرعي، وإن أدرك العلماء عبر العصور الفرق بين المطلوب المشروع وبين الممكن المتاح، وهذا ما سنؤكد على أهميته لاحقًا.
فلا بد وأن يكون حيًّا عند كل الدعاة، بل عند كل أفراد العمل الإسلامي: أن الدين شامل لكل نواحي الحياة، وهناك تصور إسلامي لكل النواحي في الدولة سواء في السياسة أو الحرب والسلم، أو الاقتصاد، أو التعليم، أو الإعلام، أو الفن، أو الأدب، أو النظام الاجتماعي، وكل أوجه حياة البشر.
إخوة الإسلام.. لم يعد يكفي الإجمال فالكل يتكلم في هذه القضايا، لا يكفي أن نقول الآن نحن شعارنا الكتاب والسُّنة بفهم سلف الأمة، ما هو سلف الأمة في هذه القضايا؟ ما هو موقف أهل السنة والجماعة في قضايا تغيير الواقع؟ في هذه مسائل السياسة الشرعية في الحكم والإمارة والرياسة والملك؟ في الحرب والسلم؟ ما ستصنعون في كل هذه القضايا؟
كل هذه المسائل لم يعد يكفي فيها الإجمال، لا بد أن يكون عند كل مسلم ومسلمة أصولًا كلية، وإن كانت هناك فروع دقيقة في كل باب يدركها المتخصصون، لكن لا بد وأن يكون هناك معرفة بقدرٍ من التفصيل في المشروع الإسلامي في الجملة؛ لأن عدم العلم بذلك يفتح أبوابًا خطيرة من الفتن؛ منها: عدم الانتباه لمحاولات البعض تسمية الواقع المخالف للإسلام باسم الإسلام دون تغيير جوهري لهذه المخالفات، وهذا أخطر من المخالفة الصريحة المعلنة للإسلام؛ لأن من يتكلَّم باسم الدِّين سيحبه الناس وربما يقدمونه؛ لأنه من المنتسبين إلى التيارات الإسلامية، وإذا قارنوها بالعلمانية والليبرالية عدوه انتصارًا أكيدًا لأهل الإسلام، فيتحول الأمر -بسبب سوء القصد، أو بسبب قلة العلم وعدم التمييز بين درجات المصالح والمفاسد- إلى قبول الواقع غير الإسلامي، وتوصيفه بأنه صار إسلاميًّا، وأن المطلوب هو إضافة كلمة إسلامي للاسم، ويبقى المسمى على ما هو عليه!
وأظن أن المنافقين والزنادقة والكفار -الذين كانوا منذ فترة وجيزة يعلنون أنهم يريدون تغيير المادة الثانية من الدستور وإلغاء مرجعية الشريعة- فهموا هذه المسألة؛ فغيَّروا من أسلوبهم في محاربة الشريعة، وبدأوا يقبلون ببعض المظاهر الإسلامية دون التطبيق الحقيقي لها، كما يحدث في أمريكا؛ تجد الدساتير تنص على احترام الدِّين ثم لا يُطَبَّق منه شيء ويكتفَى بالمظاهر! فهم مثلًا في افتتاح الكونجرس يقدمون حاخامًا يقرأ جزءًا من التوراة ثم قسيسًا يقرأ جزءًا من الإنجيل، وليس عندهم مانع من تقديم شيخ يقرأ جزءًا من القرآن، وبعد ذلك لا يكون لما يقرؤون أثر فيما يتخذونه من قرارات، ومن تلك المظاهر أنهم كتبوا على الدولار الأمريكي عبارة "we trust in God"؛ أي: نثق بالله أو نتوكل على الله، هذا الذي يريدون أن يصل المسلمون إليه.
وبالطبع نحن لا نتهم الجميع بسوء النية، وتعمد الصد عن سبيل الله وحرب الشريعة عن طريق المكر، لكن بعضهم حسنت نيته؛ فاكتفى بمجرد تغيير الأسماء دون الحقائق، استجابة لضغوط خارجية وداخلية تحت مسمَّى: مراعاة المصلحة، في حين لا يدري هذا القائم في مواجهة الضغوط الموازين الشرعية لاعتبار المصالح والمفاسد، وإلا فباب المصلحة والمفسدة باب في غاية الخطورة لا بد من التحاكم فيه إلى الشرع، وإلا فالمنافقون والزنادقة يقولون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) (النساء: 62)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة: 11)، فهم جميعًا يقولون: المصلحة!
أعود فأقول: إننا نؤكِّد على مسألة شمول الإسلام لكل نواحي الحياة، وضرورة معرفة المنهج الإسلامي لكل نواحي الحياة، وضرورة معرفة المنهج الإسلامي في هذه النواحي بشيء من التفصيل، وبكل التفصيل عند متخصصين في كل الجوانب، ونضرب لذلك مثلًا: بالطالب الحاصل على شهادة الثانوية العامة؛ لا بد لكي يكون مؤهلًا لدخول الجامعة أن يكون قد حصَّل علومًا معينة، هذا حد أدنى، ثم يتخصص بعد ذلك في كلية معينة، فيحصِّل قدرًا أعمق من التفاصيل، ثم يتخصص بعد ذلك في قسم خاص، ثم بعد ذلك في رسالة خاصة، وبند خاص، وهكذا.
فعلينا أن نحصِّل قدرًا كافيًا من التفصيل بحيث نستطيع الدِّفَاع عن ديننا؛ فنحن في كل يوم فيما يشبه المعركة، وكل مَن هَبَّ ودَبَّ يتكلَّم في أخطر الأمور، فإذا كنتَ في كل مرة تكتفي بالإجمال؛ فلن يجدي دفاعك عن منهجك، بل لا بد أن تكون عالمًا بهذا التفصيل.