كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- التعرف على الله -تعالى- أجَلُّ أنواع المعرفة، والتعبُّد له -تعالى- بأسمائه وصفاته أجل أبواب التعبد: قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف: 180) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).
- ورد اسم الله (الحكيم) في القرآن في واحد وتسعين موضعًا، وفي جميع المواضع يرد هذا الاسم الكريم مقترنًا باسم آخر من أسمائه الحسنى بحسب السياق.
معنى الاسم وما يتناوله؟
- معناه في اللغة: قيل: "الحكيم ذو الحكمة. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم...". وقال الأزهري: "ونرى أن حَكَمَة الدابة سُمِّيت بهذا المعنى؛ لأنها تمنع الدابة من كثير من الجهل..." (لسان العرب 2/951، 953)(1).
- معناه في حق الله -تعالى-: قال الحليمي -رحمه الله-: "الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب. وإنما ينبغي أن يوصف بذلك؛ لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم" (الأسماء والصفات للبيهقي).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله". وقال السعدي: "الحكيم: هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه، فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع سدى" (تفسير السعدي).
- ويتناول اسمه -سبحانه- (الحكيم) معنيين كبيرين:
المعنى الأول: (الحكم) فله -سبحانه- الحكم كله في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 26).
المعنى الثاني: (الإحكام) فله الحكمة البالغة في خلقه وأمره وشرعه، فلا يخلق ولا يأمر إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وهذا النوع هو موضوع حديثنا.
- وهذا النوع (بمعنى الإحكام) ينقسم إلى ثلاثة أقسام: "الأول: حكمته -سبحانه- في خلقه وصنعه. الثاني: حكمته -سبحانه- في أمره الديني الشرعي. الثالث: حكمته -سبحانه- في أمره القدري وقضائه وقدره"، وسنقف مع كل نوع وقفة.
الوقفة الأولى: حكمته -سبحانه- في خلقه وصنعه:
- الله -سبحانه وتعالى- حكيم في خلقه خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصًا، ولا فطورًا: قال -تعالى-: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88)، وقال: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك: 3-4)، وقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (المؤمنون: 115-116)، وقال: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 49-50).
- تأمل في خلقه لترى عظيم حكمته فيما يظهر لك فقط، وما خفي علينا أكثر(2): قال -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53). (أمثلة بسيطة جدًّا: درجة حرارة عينك 9 وجسدك 37؟! - لماذا أذنك بارزة وليست ثقبًا؟! - لماذا جلد يدك الباطن غليظ قوي، والظاهر رقيق ناعم؟! - ...).
- أثر الإيمان بحكمته -سبحانه- في خلقه وصنعه: قال العلماء: "إن ذلك يثمر في القلب المحبة العظيمة لله -عز وجل- والتعظيم له -تعالى- والخوف منه -سبحانه-، وذلك لما يشاهده العبد من الحكمة البالغة والخلق البديع والصنعة المتقنة التي في هذا النظام البديع الدقيق الذي سخَّره الله -عز وجل- للإنسان ليعمره بطاعة الله -تعالى- وعبادته، وتجنب مساخطه".
الوقفة الثانية: حكمته -سبحانه- في أمره الديني الشرعي:
- الله -سبحانه وتعالى- شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، وقد اشتمل شرعه، ودينه على كل خير، وهو الغاية لصلاح الدنيا (الأحكام المتوازنة لحفظ النفوس، والأموال، والأعراض، والعقول، والدين، والأخلاق، والمعاملات، و...): قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال -تعالى-: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الممتحنة: 10)، وقال -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين: 8).
- ولذا فإنك تجد آيات الأحكام كثيرًا ما تشتمل خواتمها على اسمه (الحكيم): كقوله -تعالى-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إلى قوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 11).
- تأمل في شرعه لترى عظيم حكمته فيما يظهر لك فقط، وما خفي علينا أكثر: (مثال: في الآية السابقة مضاعفة حظ الذكر؛ لأنه ينفق على غيره، بخلاف الأنثى فغيرها ينفق عليها).
- أثر الإيمان بحكمته -سبحانه- في أمره الديني الشرعي: قال العلماء: "إن ذلك يثمر الإذعان لأحكامه -سبحانه- الدينية وأوامره الشرعية، والاستسلام التام لها من غير ريبة ولا حرج، ويثمر الشعور بالفخر والسرور بهذه الشريعة العظيمة التي هي من لدن الحكيم الخبير، ويثمر السعي لنشرها بين الناس".
الوقفة الثالثة: حكمته -سبحانه- في أمره القدري (في قضائه وقدره):
- لله -تعالى- الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، سواء ظهرت هذه الحكمة للعباد أم خفيت: قال -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).
- تأمل في أمره القدري لترى عظيم حكمته فيما يظهر لك فقط، وما خفي علينا أكثر: (إشارة مختصرة إلى قصة يوسف -عليه السلام-: بغض الإخوة وحسدهم له - إلقاؤه في البئر المهلك - بيعه رقيقًا بثمن بخس - فتنة امرأة العزيز - محنة السجن بضع سنين - ثم: منام الملك! لنيل السلطان والملك، ودعوة الناس إلى الحق، واجتماع الشمل): (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100).
- أثر الإيمان بحكمته -سبحانه- في قضائه وقدره: قال العلماء: "إن ذلك يثمر الرضا بقضاء الله -تعالى- وقدره، والإيمان بأن ما يقضيه الله من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة، وفيها الصلاح والخير، إما في الحال أو المآل، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله -سبحانه-"(3).
خاتمة:
- مسكين هذا المخلوق الذي يأتي بعد ذلك ويعترض على أحكام الحكيم -سبحانه- بأنها لا ترضي عقله الضعيف!: (أين هذا العقل الذي تصيبه الأمراض؛ مثل: الزهايمر، الوسوسة، الرهاب، الانفصام، ...) ليعترض على الحكيم -سبحانه-؟!
- ألا آن لأرواحنا وعقولنا أن تستسلم وتسجد للحكيم الخبير؟! ألا آن أن نعلم أن حكمته -تعالى- أعظم من تساؤلات عقولنا؟! ألا آن أن نعلم أن الحكيم لا يقدر إلا الأصلح؟! ولا يشرع إلا الأحسن؟! قال -تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51).
فاللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقًا إلى لقاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الله -سبحانه وتعالى- فطر عباده على استحسان وضع الشيء في موضعه، والإتيان به في وقته، وحصوله على الوجه المطلوب منه، وعلى استقباح ضد ذلك وخلافه، وأن الأول دال على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته، وضده دال على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته، ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك، وجعله فيهم أولى به منهم، فهو -سبحانه- يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها. (تفسير السعدي).
(2) ومن أراد التوسع في معرفة بعض حكم الله -عز وجل- في خلقه وصنعه فليرجع إلى كتاب (مفتاح دار السعادة) لابن القيم -رحمه الله- حيث ذكر أمثلة كثيرة لعجائب خلق الله -تعالى- وحكمته في الآفاق والأنفس.
(3) فائدة: تفاوتت أحوال الناس في الاستسلام لحكمة الله في الأنواع الثلاثة، فأما الأول: فلم يتجرأ أن يعترض عليه إلا الملاحدة المنكرون لوجود الله أصلاً، وأما الثاني والثالث: فيعترض عليه ضعاف الإيمان والمنافقون والكافرون.