الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 25 ديسمبر 2025 - 5 رجب 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (242) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (25)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

تكملة الفائدة الثامنة في التطهير المعنوي للمساجد بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) (رواه أحمد). وعن عمرو بن دينار وقد سُئِل عن الصلاة وسط القبور، فقال: ذُكِر لي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلعنهم الله -تعالى-" (مرسل، لكن يشهد له الأحاديث الصحيحة السابقة).

وعن أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كيف نبني قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنجعله مسجدًا؟ فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) (رواه ابن زنجويه في فضائل الصديق).

وهذا يدل دلالة واضحة على أن الصحابة لم يريدوا قط أن يتخذوا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجدًا، وإنما احتاجوا إلى توسعة المسجد فاتسع المسجد من حول القبر، وهو مقصود ابتداءً، وسيظل مقصودًا؛ بنوا، بل دفنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجرته حتى لا يتخذه الناس مسجدًا.

وإنما يتصور اتخاذ القبر مسجدًا بأن يدخل الإنسان إلى المقصورة ليصلي إلى القبر أو بجواره: فعائشة -رضي الله عنها- لم تزل تصلي في حجرتها، ولا تستقبل القبور الثلاثة، ولا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط بعد وفاته، ولكن هي تعيش في بيتها، فلم تقصد القبر للصلاة عنده، بخلاف من ينوي اتخاذ القبر مسجدًا بأن يصلي عنده أو يظن أن المسجد النبوي إنما بُني على قبره -صلى الله عليه وسلم-، وأن المسجد زادت فضيلته لما توسع في عهد عمر بن عبد العزيز حتى شمل الحجرة وحجرات نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لم يزل فَاضِلًا قبل ذلك. والحديث الماضي رواه ابن زنجويه في فضائل الصِّدِّيق، وصححه الشيخ الألباني في تحذير الساجد.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرِي وَثَنًا، فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) (رواه البزار، وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شواهد).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (رواه الترمذي بسند ضعيف، لكن يصحح بشواهده). والصحيح بلفظ: (لَعَنَ اللهُ زَوَّارَات القُبُورِ)؛ لأن الزيارة المتكررة من النساء كثيرًا ما يقع معها المحرمات، وإلا فأصل الزيارة ليس محرمًا لعموم العلة، فإنه تذكر الآخرة. وصحح الألباني: (‌لَعَنَ ‌اللَّهُ ‌زَوَّارَاتِ ‌الْقُبُورِ ‌وَالْمُتَّخِذِينَ ‌عَلَيْهَا ‌الْمَسَاجِدَ)، وأما السُّرُجُ فهي صحيحة المعنى.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ) (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وهو حديث صحيح، صححه الألباني).

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها: ظهر بيت الله، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق". وفي إسناده مقال كثير، فالحديث رواه ابن ماجه، وفيه أبو صالح كاتب الليث، ضعفه جماعة. ورواه الترمذي وأبو داود في الجزء الخاص بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، أو فيما ينهى من الصلاة في المقبرة، فهذا صحيح بشواهده.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَصَلُّوا إِلَى الْقَبْرِ وَلَا تَصَلُّوا عَلَيْهِ) (رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن كيسان مختلف فيه، لكن له شواهد يصح بها).

وعن عون بن عبد الله قال: لقيت وائلة بن الأسقع، فقلت: ما أَعْمَلَنِي إلى الشام غيرك، حدثني بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم ارحمنا واغفر لنا، ونهانا أن نصلي إلى القبور أو نجلس عليها" (رواه الطبراني في الكبير، وفيه حجاج بن أرطاة وهو مدلس، ولكن لمعناه شواهد).

وغرضنا من ذكر هذه الأحاديث التي في بعضها ضعف، ولكن تصَحَّح وتحَسَّن بشواهدها، بيان أن هذا الأمر متواتر أحاديثه، أعني النهي عن اتخاذ القبور مساجد.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.