كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تكلَّمْنا في مقالٍ سابقٍ عن الفرحِ المحمود، وفي هذا المقالِ نتكلم -إن شاء الله- عن الفرح المذموم.
الفرح المذموم: هو الفرحُ بالنعمة مع الكِبْر والتعاظم والطغيان، والتقوِّي بها على معصية الله -سبحانه و-تعالى--.
وهذا هو تعريفُ البَطَر والأَشَر والفرح والمَرَح الذي ذكرهُ اللهُ عن الأمم المُكذِّبة: قال اللهُ -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال: 47).
قال القُرطبيُّ -رحمه الله-: "البَطَرُ في اللغةِ: التَّقَوِّي بِنِعَمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وما ألبسَهُ مِنَ العافيةِ على المعاصي، وهو مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: خرجوا بَطِرِينَ مُرائِينَ صادِّينَ، وصَدُّهُمْ: إضلالُ الناسِ".
وقال -تعالى-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) (القصص: 58). قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ -رحمه الله-: "البَطَرُ: أَشَرُ -أي: بَطَرٌ واستكبارٌ- أهلِ الغفلةِ وأهلِ الباطلِ، والركوبُ لِمعاصِي الله". وقال أيضاً: "ذلك البَطَرُ في النعمةِ". وقال الزجَّاجُ: "البَطَرُ: الطغيانُ بالنعمةِ، وتَرْكُ شُكْرِها".
وقال السعديُّ -رحمه الله-: "أي: فَخَرَتْ بها، وأَلْهَتْها، واشتغلتْ بها عن الإيمانِ بالرُّسُلِ، فأهلكَهُمُ اللهُ، وأزالَ عنهمُ النعمةَ، وأَحَلَّ بهمُ النِّقمةَ".
وفي الأَشَرِ في قولِه -تعالى-: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (القمر: 25)، يُعْنَوْنَ بالأَشَرِ: المَرِحَ ذا التجبُّرِ والكِبرياءِ.
قال الطبريُّ -رحمه الله-: "والأَشَرُ والبَطَرُ كلاهما بمعنىً؛ فالأَشَرُ هو البَطَرُ، وقيلَ: الأَشَرُ أشَدُّ البَطَرِ. وقيلَ: الأَشَرُ: الفَرَحُ والغُرورُ". وقال أهلُ اللُّغةِ: "البَطَرُ: سوءُ استِعمالِ النِّعمةِ".
الفرحُ في قصةِ قارونَ:
قال اللهُ -تعالى-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: 76).
فقارونُ -لعنه اللهُ- آتاهُ اللهُ كنوزًا تَنُوءُ مفاتحُها بالعُصبةِ -وهُمُ العددُ مِنَ العشرةِ إلى ما دونهُ- أُولي القُوَّةِ مِنَ الرجالِ هذه المفاتيحُ! فما بالك بالخزائن؟! (فَبَغَى عَلَيْهِمْ) أي: طَغَى بما أُوتِيَهُ مِنَ الأموالِ.
فقالَ لهُ قومُهُ ناصحِينَ مُحذِّرِينَ لهُ عن الطغيانِ: "لا تفرحْ بما أنتَ فيهِ، إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الفَرِحِينَ". قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: "المَرِحِينَ". وقال مجاهدٌ -رحمه الله-: "الْأَشِرِينَ: البَطِرِينَ الذينَ لا يشكرونَ اللهَ على ما أعطاهمْ".
وقال السعديُّ -رحمه الله-: "أي: لا تفرحْ بهذه الدنيا العظيمةِ، وتفتخرْ بها، وتُلْهِكَ عن الآخرةِ؛ فإنَّ اللهَ لا يُحبُّ الفَرِحِينَ بها، المُنْكَبِّينَ على محبَّتِها". وقالوا لهُ ناصحينَ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77). أي: استعملْ ما وهبكَ اللهُ مِن هذا المالِ الجزيلِ والنعمةِ الطائلةِ في طاعةِ ربِّكَ، والتقرُّبِ إليه بأنواعِ القُرُباتِ التي يَحْصُلُ لكَ بها الثوابُ في الدارِ الآخرةِ.
(وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: ممَّا أباحَ اللهُ لكَ مِنَ المآكلِ والمشاربِ والملابسِ والمساكنِ والمناكحِ. وأَحْسِنِ التعاملَ مع ربِّكَ ومع خَلْقِهِ كما أحسنَ اللهُ إليكَ. ولا تَكُنْ هِمَّتُكَ بما أنتَ فيهِ أنْ تُفسِدَ في الأرضِ بارتكابِ المعاصي وتَرْكِ الطاعاتِ، وتُسِيءَ إلى خَلْقِ اللهِ. إنَّ اللهَ لا يُحبُّ المفسدينَ في الأرضِ بذلكَ بل يُبْغِضُهُمْ.
فماذا كانَ قولُهُ؟!
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78). أي: قالَ إنَّما أُعطِيتُ هذه الأموالَ لِعِلْمٍ عندي وقدرةٍ، فأنا أستحِقُّها. أَوَلَمْ يَعْلَمْ هذا الكافرُ الجاحدُ المُسْتَعْظِمُ بما آتاهُ اللهُ أنَّه -عزَّ وجلَّ- قد أهلكَ مَنْ هو أكثرُ منهُ مالًا، وما كانَ ذلكَ عن محبَّةٍ مِنَ اللهِ لهُ، وقد أهلكهُمُ اللهُ مع ذلكَ بكُفرِهِم، وعدمِ شُكْرِهِم. ولهذا قالَ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي: لِكَثْرَتِها. (ينظر: تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.