الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 06 يناير 2025 - 6 رجب 1446هـ

الألباني.. إمامُ الحديث في العصر الحديث (3)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتَقَعُ جُمْهُورِيَّةُ ألبانيا في غربِ منطقةِ البَلْقَانِ، على مَضِيقِ أُوتْرَانْتُو، في الجُزءِ الجَنُوبيِّ مِن أوربَّا، وتَحُدُّهَا مِن الشَّمالِ جمهوريَّةُ الجَبلِ الأسودِ، واليُونانُ مِن الجَنُوبِ، وكُوسُوفُو ومَقْدُونيا مِن الشَّرقِ، وتَطُلُّ سَواحِلُها على البحرِ الأَيُونِي والأَدْرِيَاتِيكِي.

وكان أهلُ البَلْقَانِ يَدِينُونَ دِينَ النَّصَارَى الأَرْثُوذُكْسِ والكَاثُولِيكِ، ولمّا مَنَّ اللهُ بِفَتْحِ القُسطَنطِينيَّةِ (857 هـ - 1453 م) (إِسْطَنْبُولُ الآنَ) -التي كانت عاصمةَ الرُّومَانِ- على يدِ محمَّد الثَّاني أو محمَّد الفاتحِ، الذي كان له أكبرُ الأثرِ في الإمبراطوريَّةِ العُثْمَانِيَّةِ، وتَمَكَّنَتْ سُلْطَتُهُ في البَلْقَانِ لا سيَّما بعد أَنْ ضَرَبَ قَلْبَ الإمبراطوريَّةِ البِيزَنطِيَّةِ، إلى أنْ جاء عام 1912 م الذي تَوَحَّدَتْ فيه الجُهُودُ الحَرْبِيَّةُ بين قُوَّاتٍ مِن بُلْغاريا واليُونانِ وصِرْبِيا والجَبلِ الأسودِ لِهزيمةِ العُثْمَانِيِّينَ في حربِ البَلْقَانِ الأُولَى، التي انتهت عام 1913م بخَسارةِ العُثْمَانِيِّينَ نسبةً كبيرةً مِن أراضي البَلْقَانِ، وتوقيعِ اتِّفَاقِيَّةِ لَنْدَن.

فحينما تَوَطَّدَتْ سُلْطَةُ محمَّد الفاتحِ في البَلْقَانِ، وفُتِحَ له شرقُ أوربَّا وجنوبُ شرقِها، انطلَقتْ سرايا الجهادِ العُثْمَانِيَّةُ لضم هذه البلاد إلى دولة الإسلام؛ فَأَسْلَمَ أكثرُ هذه البلادِ، ما عدا أكثرَ أهلِ اليُونانِ، الذين ظَلُّوا على عقيدتِهم النَّصْرَانِيَّةِ، وكذلك أهلُ صِرْبِيا، الذين ظَلُّوا على النَّصْرَانِيَّةِ أيضًا، لذلك لمّا قامت حربُ البُوسْنَةِ الأخيرةُ، كان الصِّرْبُ يُعَامِلُونَ أهلَ البُوسْنَةِ مُعَامَلَةً قَاسِيَةً جِدًّا؛ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُمْ مُرْتَدِّينَ عن النَّصْرَانِيَّة، أمَّا ألبانيا فدخل أكثرُ أهلِها في الإسلامِ، ومِثْلُهَا البُوسْنَةُ، والبُوسْنَةُ أيضًا ألبانُ، ولُغَتُهُمْ ألبانيَّة.

وقد كان هناك عَدَدٌ قَلِيلٌ مِن المُسلِمينَ في ألبانيا قَبْلَ وُصُولِ العُثْمَانِيِّينَ إليها، ودخلها الإسلامُ عن طريقِ التُّجَّارِ الألبانِ الذين كانوا يَذْهَبُونَ إلى صِقِلِّيَّةَ والأَنْدَلُسِ، وأيضًا عن طريقِ تُجَّارِ المَشْرِقِ العَرَبِيِّ الذين دَخَلُوهَا، وكان هذا قَبْلَ القَرْنِ الثَّامنِ بقليلٍ، ومِن الدَّلائلِ على هذا وُجُودُ المسجدِ الأحمرِ في قَلْعَةِ بِيرَاتَ، وكان تاريخُ بِنَائِه قَبْلَ وُصُولِ العُثْمَانِيِّينَ إلى ألبانيا.

والعُنْصُرُ الرَّئِيسُ في ألبانيا هم الأَرْنَؤُوطُ؛ بالإضافةِ إلى وُجُودِ التُّرْكِ، والأَفْلَاقِ، والبُلْغَارِ، واليُونَانِ، والعَرَب، ويَتكلَّمُ الألبانُ اللُّغَةَ الآرِيَّةَ، بِلَهجتَينِ شَماليَّةٍ وجَنُوبيَّةٍ، مع كثرةِ المُفرَداتِ التُّرْكِيَّةِ، وبخاصَّةٍ في الشَّمَال.

وأُطْلِقَ على الألبانِ عِدَّةُ أسماءٍ، أَشْهَرُهَا: ما أَطْلَقَهُ عليهم الأتراكُ والبُلغارُ والعَربُ، وهو اسْمُ (الأَرْنَؤُوط)، وقد أَطْلَقَ عليهم اليُونَانِيُّونَ اسْمَ (أَرْفَانِيت)، واليُوغُسْلَافِيُّونَ اسْمَ (أَرْبَانَاس)، والأُورُبِّيُّونَ اسْمَ (ألبانِيُّون)، وحديثًا أَطْلَقُوا هُمْ على أَنْفُسِهِمْ اسْمَ (شِتْشِيبْتَار).

وكان يُطْلَقُ على الألبانِ قديمًا (الأَلِيرِيِّينَ)، نِسْبَةً إلى (أَلِيرْيَا)، وهو الاسْمُ القديمُ لِلْقِسْمِ الشَّمَالِيِّ والغَرْبِيِّ مِن شِبْهِ جَزِيرَةِ البَلْقَان.

وكتابُ (الجُغرافيا) لِعالِمِ الفَلَكِ والجُغرافيا اليُونَانِيِّ كُلُودْيُوسَ بَطْلِيمُوس (100 – 170 م) هو أَقْدَمُ مَصْدَرٍ ذُكِرَ فيه الأَلْبَانِيُّونَ، وذلك في الجُزءِ الثَّالثِ منه، فقد جاء فيه النَّصُّ الآتي: (فِي أَرَاضِيَ الْأَلْبَانِيِّينَ تَقَعُ مَدِينَةُ أَلْبَانُوبُولِيس)، وعَزَا بَطْلِيمُوسُ أَصْلَهُمْ إلى القبائلِ الأَلِيرِيَّة.

والأَلِيرِيُّونَ شَعْبٌ مُمْتَزِجٌ مِن العِرْقَيْنِ الهِنْدِيِّ والأُورُبِّيِّ، وتَعُودُ جُذُورُهُ إلى الألفِ الثَّالثِ قَبْلَ الميلادِ، ويَتَكَوَّنُ مِن عِدَّةِ قبائلَ تَخْضَعُ لِزَعِيمٍ مِن قبيلةٍ قَوِيَّةٍ فيها يُتَوَّجُ مَلِكًا عليها، وقد بَقِيَتْ هذه المَمْلَكَةُ لِعِدَّةِ حِقَبٍ وأجيالٍ، وتَعَاقَبَ على زَعَامَتِهَا عِدَّةُ مُلُوكٍ، آخِرُهُمْ المَلِكُ الأَلِيرِيُّ أَكْرُون، وكانت (شُكُودْرَا) عاصمةَ مَمْلَكَتِه، وهي مَسْقَطُ رَأْسِ الشَّيْخِ الألبانيِّ، وكانت عاصمةَ ألبانيا آنَذَاكَ، وهي تَقَعُ في شَمَالِ غَرْبِ ألبانيا.

ونُكْمِلُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.