الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 01 يناير 2025 - 1 رجب 1446هـ

مكارم الأخلاق (12) الأمانة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- الإسلام يحثُّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

- من مكارم الأخلاق المنشودة: "الأمانة": قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58).

- المقصود الأمانة: قال الكفوي في تعريف الأمَانَة: "كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة، وصيام، وأداء دين، وأوكدها: الودائع، وأوكد الودائع: كتم الأسرار".

- حاجتنا إلى نشر خُلُق الأمانة في زمان قلَّت فيه الأمانة، وقلَّ أصحابها كما أخبر الصادق المصدوق: قال: (‌وَيُصْبِحُ ‌النَّاسُ ‌يَتَبَايَعُونَ، ‌فَلَا ‌يَكَادُ ‌أَحَدٌ ‌يُؤَدِّي ‌الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا) (رواه البخاري).

مكانة الأَمانَةُ في الإسلام:

- الأَمانَةُ من أخلاق الإسلام العظمى، وأساس من أسسه الكبرى: قال -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72).

- وقد أمرنا الله بأداء الأمانات الى أصحابها، ولو كانوا من غير المسلمين: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58). قال المفسرون: "لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، ودخل المسجد الحرام فطاف حول الكعبة، وبعد أن انتهى من طوافه دعا عثمان بن طلحة -حامل مفتاح الكعبة- فأخذ منه المفتاح، وتم فتح الكعبة، فدخلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم جلس في المسجد فقام علي بن أبي طالب وقال: يا رسول الله، اجعل لنا الحجابة مع السقاية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أين عثمان بن طلحة؟ فجاءوا به، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برٍّ ووفاء"، ونزلت الآية في هذا. (انظر سيرة ابن هشام).

- وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج: 32).

- وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمانة دليلًا على إيمان المرء وحسن خلقه: فقال: (‌لَا ‌إِيمَانَ ‌لِمَنْ ‌لَا ‌أَمَانَةَ ‌لَهُ، ‌وَلَا ‌دِينَ ‌لِمَنْ ‌لَا ‌عَهْدَ ‌لَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

- وقد أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأداء الأمانة مع جميع الناس، وألا نخون من خاننا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَدِّ ‌الْأَمَانَةَ ‌إِلَى ‌مَنِ ‌ائْتَمَنَكَ، ‌وَلَا ‌تَخُنْ ‌مَنْ ‌خَانَكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ ‌الْمُنَافِقِ ‌ثَلَاثٌ: ‌إِذَا ‌حَدَّثَ ‌كَذَبَ، ‌وَإِذَا ‌وَعَدَ ‌أَخْلَفَ، ‌وَإِذَا ‌اؤْتُمِنَ ‌خَانَ) (متفق عليه).

مجالات الأمانة:

الأمانة لها مجالات كثيرة، منها:

1- الأمانة في العبادة (بأن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض الدين كما ينبغي).

2- الأمانة في حفظ الجوارح (فلا يستعملها فيما يغضب الله؛ فالعين أمانة يجب عليه أن يغضها عن الحرام، والأذن أمانة يجب عليه أن يجنِّبَها سماع الحرام، واليد أمانة، والرجل أمانة، واللسان أمانة، إلخ)، قال -تعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء:36).

3- الأمانة في حفظ الودائع (بأدائها لأصحابها عندما يطلبونها كما هي دون نقصان).

4- الأمانة في العمل والوظيفة والمسئولية عمومًا (وهي أن يؤدي المرء ما عليه على خير وجه، ويحافظ على ما تحت يده، فلا يستعمله إلا في الحق)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، ‌وَالْعَبْدُ ‌رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

5- الأمانة في البيع (فلا يغِشُّ أحدًا، ولا يغدر به ولا يخونه): مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟) قَالَ: ‌أَصَابَتْهُ ‌السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه مسلم).

 نماذج في الأمانة:

- أمانة الأنبياء -عليهم السلام-:

- الأنبياء والرسل هم أعظم أمناء الله في أرضه، فهم أمناء على شرائعه ودينه: شعارهم جميعًا -عليه السلام-: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف: 68).

- النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: اتصف بها منذ نشأته -صلى الله عليه وسلم- حتى لَصِقت به قبل بعثته، فنعتته قريش بالصادق الأمين، واشتُهِر بذلك عند أهل مكة فحكَّموه في خصوماتهم، واستودعوه أماناتهم، فما حُفظت عنه غدرة، ولا عُرفت له في أمانته زلة: "لما هاجر من مكة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب ليعطي المشركين الودائع والأمانات التي تركوها عنده" .

أمانة الصالحين:

- أمانة في البيع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: ‌إِنَّمَا ‌بِعْتُكَ ‌الْأَرْضَ ‌وَمَا ‌فِيهَا، ‌قَالَ: ‌فَتَحَاكَمَا ‌إِلَى ‌رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (متفق عليه).

- أمانة في قضاء الدين: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، قَالَ: ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي، فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ، وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا) (أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم).

- أمانة في الوظيفة: عن عبد الله بن دينار أنه قال: "خرجت مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر بنا راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك فقال: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى ابن عمر -رضي الله عنه- ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة" (إحياء علوم الدين).

خاتمة:

- أين الذين يختلسون الأموال التي اؤتمنوا عليها مِن هؤلاء؟

أين الذين...؟

أين الذين...؟

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

واصرف عنا سيئها.. لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.