كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
وكذا يوم بدر لما أراد المشركون إهلاك هذه العصابة المؤمنة، أنزل الله -تعالى- عليه -صلى الله عليه وسلم- السكينةَ والرحمة والنصرَ؛ قال الله -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ . إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال:9-12).
وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ). فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ... ".
وكذا يوم أحد؛ يوم قُتِل سبعون من أصحابه -صلى الله عليه وسلم-، وكسرت رباعيتُهُ -صلى الله عليه وسلم-، وهشمت البيضة على رأسه -صلى الله عليه وسلم-، وسال الدمُ على وجهه -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه صبر واحتسب؛ فكان النصرُ في الدنيا والثوابُ في الآخرة؛ قال الله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:146-148).
وكذا يوم الأحزاب: حين اجتمع الأحزاب لاستئصال دعوته -صلى الله عليه وسلم-، فصبرَ وثبتَ واحتسبَ -صلى الله عليه وسلم-؛ فجعله الله -تعالى- قدوة وأسوة للعالمين، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:21، 22).
فبهذه المواقفِ وغيرِها أظهر الله -تعالى- قدرَ رسولهِ -صلى الله عليه وسلم-، وأعلى شأنهُ، وجعله إمامًا للمرسلين، وجعله خيْرَ خلقِ الله أجمعين.
ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
أنه يجعل الكافرين والمنافقين والظالمين يعذبون بلذاتهم، قال الله -تعالى-: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)، فالأموال والأولادُ من أسبابِ السعادةِ للإنسانِ، ولكن يجعلها الله -تعالى- سببًا لعذاب الظالمين: فأما الأموالُ؛ فيُعذبون بها في الدنيا وعند الموتِ، وفي القبرِ وفي القيامة.
ففي الدنيا: من يجمع المالَ من حرامٍ فإنه يشقى به؛ يشقى بطلبهِ، ثم بعد ذلك يشقى بحبسهِ والحرص عليه، والقلقِ على نفاده -فالبخلُ داءٌ يجعل الإنسان شقيًّا في حياته، متألمًا في جميع لحظاته-، ويشقى بإنفاقِ ما ينفق بلا سماحةٍ، ولا رضا، ولا رغبةٍ فيما عند الله -عز وجل-، ويتألم في المصائبِ التي تصيبه حين يفقد ما يتمنى تحقيقَه؛ فيزداد ألمًا بعد ألم.
حتى إذا جاء الموتُ كان ذلك أعظمَ الألم الذي يلقاه في دنياه، ويشتد عليه عندما يعاين السكرات؛ فهذه شدة عظيمة؛ إلا أنها لا تزال بدايةَ الشدائد!
فإذا مات كان كنزه وماله ضجيعًا له في قبره كثعبانٍ يلدغهُ ويقضم يده، يلتف حول رقبته، ولا يجد منه مهربًا، ويقول له في القيامة: "أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ"، ثم يطوقه الشجاعُ الأسود ذو الزبيبتين -النقطتين-.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ). ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران:180) (رواه البخاري).
فإذا جاءت القيامة: فإنهم يعذبون بما اكتنزوه من أموالهم ولم يؤدوا حقها؛ قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:34، 35)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) (رواه مسلم).
وأما الأولادُ؛ فإنهم يعذبون بهم في الدنيا وفي القيامة:
في الدنيا: بمنازعتهم لهم دائمًا، وبمخالفتهم إياهم، فيحرمون برَّهم، وبشقائهم بهم عند فقدهم، حتى ربما تهلكُ نفسُ أحدِهم بسبب ابنه إذا فقِد، أو مَرِضَ أو أصابه ما أصابه، فيعذَّب به، ثم بعد ذلك بالفراق الذي لا التقاء بعده إلا في النار، والذي يزيد الشقاء شقاءً.
وفي القيامة: يفر أحدُهم من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه؛ قال الله -تعالى-: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ . وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ . وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) (المعارج:11-14)، فعندما يَصلَى النارَ يعرف الألم والعذابَ بالأولاد والأموالِ -نعوذ بالله من ذلك-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.