كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فَإنِّي مُضْطَرٌّ إلى الْتِمَاسِ مَعْذِرَةِ القَارِئِ المُتَعَجِّلِ، الذي انقاد سَمْعُهُ إلى كلماتٍ، واعتاد بَصَرُهُ على عباراتٍ، لا تتجاوز السَّطْرَينِ أو الثَّلاثةَ، يقول صاحبُها: لقد قضى محمود شاكر عشرَ سنواتٍ مِن العُزْلَةِ، بدأ فيها بإعادةِ قراءةِ كُلِّ ما وقع تحت يدِه مِن الشِّعْرِ العَربيِّ... إلى آخِر تلك الكلماتِ.
وفي الحقيقةِ -عزيزيَ القارئَ- إن أنا فعلتُ ذلك، فَردَّدتُ هذه العباراتِ كالبَبْغاءِ، فقد وافقتُك إلى عادتِك المُسْتَحْكِمَةِ، وأجبتُك إلى عَجَلتِك المُلِحَّةِ، ولكن في الوقتِ ذاتِه جَنَيتُ على العُقابِ، وسَلَبتُ حُرِّيَّتَهُ، فَرَسَفَ في قُيُودٍ مِن الإهمالِ، وانْخَسَفَتْ بيننا وبينه هُوَّةٌ سَحِيقَةُ القَرَارِ، كَهُوَّةٍ بين حَبِيبَيْنِ تَمَادَى بينهما الجَفَاءُ، واشْتَدَّ في بِعَادِهِمَا الكَرْبُ والبَلَاءُ.
وإنَّمَا أمانةُ العِلْمِ تَقْضِي بضَرُورةِ استكشافِ منهجِ العُقابِ في قراءةِ هذا الشِّعْرِ؛ والعُقابُ نَفْسُهُ هو الذي أرشدك إلى مَنْهَجِهِ، فأراحك، وسهَّل لك الطَّريقَ، إذ قد عرَّف منهجَه في كثيرٍ مِن كُتُبِهِ ومقالاتِه، كما بينَّا ذلك مِرَارًا، ناصحًا إيّاك باستقصاءِ الجُهْدِ، مع الأناةِ والصَّبْرِ، وعدمِ الاستكراهِ والعَجَلَةِ، فمِن ذلك قَولُه في مُقدِّمةِ كتابِه: "رسالة في الطَّريق إلى ثقافتنا" (ص: 15، 16): (فمَنْهجِي في "تَذوُّقِ الكلامِ"، مَعنِيٌّ كُلَّ العنايةِ باستنباطِ هذه الدَّفائنِ، وباستدراجِها مِن مَكامِنِها، ومعالجةِ نَظْمِ الكلامِ ولَفْظِهِ معالجةً تُتِيحُ لي أن أَنْفُضَ الظَّلامَ عن مَصُونِها، وأُمِيطَ اللِّثَامَ عن أَخْفَى أسرارِها وأَغْمَضِ سَرائِرِها.
وهذا أمرٌ لا يُستطَاعُ ولا يَكُونُ له ثمرةٌ إلا بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلا باستقصاءِ الجُهْدِ في التَّثَبُّتِ مِن معاني ألفاظِ اللُّغةِ، ومِن مَجَارِي دلالاتِها الظَّاهرةِ والخَفِيَّةِ، بلا استكراهٍ ولا عَجَلَةٍ، وبلا ذَهابٍ مع الخَاطرِ الأوَّلِ، وبلا تَوَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخْضِعُ له نَظْمَ الكلامِ ولَفْظَه) (انتهى).
ولا شَكَّ في أنَّ هذه العادةَ التي استَحكَمَت في المُتَلَقِّينَ سببُها الرَّئِيسُ هم كثيرٌ مِن الأدباءِ والنُّقَّادِ والمُفكِّرينَ، الذين نَراهُم -قديمًا وحديثًا- يَحومُونَ حول الأدبِ، ولا يَتَوَغَّلُونَ فيه، ويَطُوفُونَ حول النُّصُوصِ، ولا يَملِكُونَ مهارةَ تحليلِها، واستخراجِ أسرارِها، واستدراجِها من مَكامِنِها.
ومِن ذلك أنَّك تَجِدُهُم يَسْتَنْفِدُونَ جُهْدَهُمْ في الكلامِ عن المُتَنَبِّي نَفْسِهِ، دون أن يتناولوا دِيوانَه بالدِّراسةِ والتَّحلِيلِ واستخراجِ مَكنُونِه والكَشْفِ عن حقيقتِه.
وقد قال النَّاقِدُ الأديبُ الشَّاعِرُ الدُّكتور أحمد هيكل (1922 – 2006) -وزيرُ الثَّقافةِ الأسبقُ- في هذا المَضمُونِ: (لا يَكفِي العملَ في حَقْلِ الدِّراسةِ الأدبيَّةِ الجانبُ النَّظَرِيُّ والجانبُ التَّأريخِيُّ، وإن كان هذا مَطلُوبًا جدًّا، فَالْأَبْقَى منه والْأَخْلَدُ ورُبَّمَا الْأَفْيَدُ لِلدَّارِسينَ ولِجَمْهَرَةِ القُرَّاءِ هو الدِّرَاسَةُ التَّطْبِيقِيَّةُ لِلنُّصُوصِ، التي تُقَرِّبُ النُّصُوصَ مِن وِجْدَانِ المُتَلَقِّينَ، وتَجعَلُها مَيسُورةً، وتَجعَلُ ما يُقَالُ عن الأدبِ نَظَرِيًّا أو تَأْرِيخِيًّا أو نَقْدِيًّا مُوَثَّقًا بهذه النُّصُوصِ المَدرُوسَةِ دِرَاسَةً مَنْهَجِيَّةً) (انتهى).
ولأحمد هيكل كِتَابٌ قَيِّمٌ في هذا البابِ، اسمُه "قصائد أندلسيَّة"، وتَضَمَّنَ الكِتَابُ دِرَاسَةً نقديَّةً تطبيقيَّةً لِنُصُوصٍ مِن الشِّعْرِ الْأَنْدَلُسِيِّ، لِثَلاثَةٍ مِن شُعَراءِ الأندلسِ الكِبَارِ؛ هم:
1- ابنُ زَيْدُونَ (ت: 463)، الشَّاعِرُ الذي عاش في عَصْرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ.
2- ابنُ خَفَاجَةَ (ت: 533)، شَاعِرُ الطَّبِيعَةِ، الذي عاش فَتْرَةً مِن حياتِه في أيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، ثُمَّ فَتْرَةً في أيَّامِ المُرَابِطِينَ.
3- ابنُ حَمْدِيسَ الصِّقِلِّيُّ (ت: 527)، ابنُ صِقِلِّيَّةَ، حينما كانت إِسْلَامِيَّةً.
فَاحْرِصْ على اقْتِنَائِه، وجِدَّ في شِرَائِه.
والعُقابُ لَم يَكْتَفِ بإرشادِنا إلى مَنهجِه، بل أَخْبَرَنَا بالمَصادرِ الأصليَّةِ التي استَقَى منها مَنهجَه، وكان مِن أهمِّها: دَلائِلُ الإعجازِ لِعبدِ القَاهرِ الجُرْجَانِيِّ، فقد قال -كما ذَكَرْنَا في المَقالِ السَّابقِ- في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرْجَانِيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).
لِذَا فَلا بُدَّ لنا مِن إكمالِ هذه الوَقَفَاتِ مع كتابِ "دلائل الإعجاز"، وكي تَكُونَ تمهيدًا لِتَنَاوُلِه بِالدِّرَاسَةِ والتَّحْلِيلِ عند الكلامِ عن مُؤَلَّفَاتِ محمود شاكر وتحقيقاتِه.
واللهُ المُوَفِّقُ والمُسْتَعَانُ.