كتبه/ نصر رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن منزلة الفتوى عظيمة، ونفعها عميمٌ؛ لكونها المنصب الذي تولاه الله بنفسه، فكفى هذا المنصب شرفًا وجلالة أن يتولاه الله -تعالى- بنفسه، وينسبه إلى ذاته؛ قال -تعالى-: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ) (النساء: 127)، وقال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) (النساء: 176).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين ... فكانت فتاويه -صلى الله عليه وسلم- جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب" (إعلام الموقعين).
وقال -رحمه الله-: "إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا يُجْهَل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات" (إعلام الموقعين).
إن القول على الله -تعالى- بغير عِلْمٍ من أعظم المحرمات، وكبائر الإثم التي حرمها الله -تعالى-؛ لما فيه من جرأة وافتراء على الله، وإغواء وإضلال للناس: قال -سبحانه-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (النحل: 116).
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله- قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يُسْأَل أحدهم عن المسألة فيَرُدُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا؛ حتى تَرْجِع إلى الأول». وفي رواية: "ما منهم من أحد يُحَدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء؛ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا".
إن الأولى بمن يَخُوض في مسائل العلم ونوازلها ممن لا يُحْسِن الخوض فيها، أن يُحِيل الكلام فيها على أهله، فإن من خاض فيما ليس من شَأْنِه؛ فأقل ما يُصِيبه افتضاحه عند أهله. وقد قالوا: "من حَدَّث قبل حينه، افْتَضَحَ فِي حينه". وجاء في الحكمة: "من استعجل الشيء قبل أوانه ابْتُلِيَ بحرمانه".
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان عنده عِلْمٌ؛ فليقل به، ومن لم يكن عنده عِلْمٌ؛ فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86)".
وقال مالك -رحمه الله-: "بكى ربيعة يومًا بكاءً شديدًا، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا، ولكن استفتى من لا عِلْمَ عنده، وظهر في الإسلام أمرٌ عظيمٌ".
وقال أبو حصين الأسدي -رحمه الله-: "إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر؛ لَجَمَعَ لها أهل بدر".
وقال القاسم -رحمه الله-: "من إكرام الرجل نفسه: ألا يقولَ إلا ما أحاط به عِلْمُه".
وقال: "يا أهل العراق، والله لا نَعْلَم كثيرًا مما تَسْأَلُونَنا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلًا؛ إلا أن يَعْلَم ما فرض الله عليه؛ خيرٌ له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يَعْلَم".
وسُئِل القاسم بن محمد -رحمه الله- عن شيء، فقال: إني لا أُحْسِنُه. فقال له السائل: إني جئتك لا أَعْرِف غيرك. فقال له القاسم: لا تَنْظُر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحْسِنُه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي، الْزَمْهَا فوالله، ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: "والله، لأن يُقْطَع لساني؛ أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا عِلْمَ لي".
وقال ابن وهب -رحمه الله-: سمعت مالكًا يقول: "العجلة في الفتوى نوع من الجهل".
إن من المشكلات في الحقل الدعويِّ (الاستعجال في التصدير)، والحكم على الأشخاص قبل التَّبَيُّن؛ بل ربما المباهاة بهم، ورفعهم فوق قدرهم. وربما كان الواحد منهم كما قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في أمثاله: "يُرِيد أن يَطِير، ولما يَريش؛ فقد بَلَوْنَاهم، وابْتُلِينَا بهم، والله المستعان". أو كما قال الأول: "تَزَبَّبَ قبل أن يَتَحَصْرَم".
وما أكثر المتزبِّبين ولما يَتَحَصْرَمُوا في أيامنا هذه، أنصاف العلماء، وأرباع العلماء، فهم شرٌّ من الجهلة والأميين؛ تصدَّروا للأداء والعطاء قبل تمام الأخذ، فظن أحدهم نفسه مع أهل العلم رجلًا كما هم رجال؛ فَصَالَ في أعراضهم بجهالات الأقوال وجَالَ، وانتقدهم واسْتَنْقَصَهم، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
ولكن تأبى السنن إلا أن يَقْتُل أحدهم نفسه بسلاح لسانه، وسيف بيانه، وسكين بنانه، وأن يَرُدَّه الله بغيظه برد كيده في نحره، وهتك مكره وأمره بعَجْرِه وبَجْرِه، فهو مُتَنَاقِص مَفْضُوح، قتيل أو مجروح؛ (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: 17).
أرادوا بأهل الدين كيدًا فَكِيدُوا بكيدهم وزَلُّـوا فـَضَـلُّـوا ولـم يَـجِـدُوا مـوالـيا
ليسَت العبرة بقبول الجهلة وانتشار كلامهم، فَلِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ؛ ولكن العبرة في أن لكل عِلْمٍ أهله، ولكل عمل رجاله؛ وإن أهل العلم والبصيرة يُفَرِّقون بين الخبر الموجب للعلم، والخبر الذي لا يوجب العلم، فإن قال قائلٌ شيئًا ودل عليه الدليل؛ يُقْبَل، وما لا يدل عليه الدليل؛ فهو مردود.
وأما الغريب الذي لا يُعْلَم صحته من فساده؛ فمرده إلى مَن يُحْسِن الكلام فيه مِن أهل العلم والاجتهاد؛ ممن أمرنا الله بالرجوع إليهم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83).