كتبه/ محمد بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد انتشر في الآونة الأخيرة ما يُسمَّى بالحكم بالبشعة كحلٍّ للوصول إلى معرفة السارق أو الزاني، أو من تورَّط في أمرٍ خطيرٍ.
أولًا: تعريف البشعة:
البشعة وسيلة بدوية قديمة للتحقُّق من صِدْق المتهم أو كذبه، خاصة في قضايا السرقة أو القتل. وهي تقوم على تسخين قطعة من الحديد أو النحاس حتى تحمر، ثم يُطلب من المتهم أن يَلْعَقَها بلسانه؛ فإن تأثَّر لسانه بالحرق، حُكم عليه بالكذب، وإن لم يتأثَّر، عُدَّ بريئًا!
وقد شاع استعمالها في بعض البوادي والقبائل، اعتمادًا على اعتقاد أن الله يُظْهِر براءة الصادق ويحرق لسان الكاذب، وهو زعمٌ لا أصل له في الشريعة.
ثانيًا: حكم البشعة في الإسلام:
اتفق أهل العلم على أن البشعة طريقة باطلة، لا يجوز التحاكم بها، ولا يصح بناء الأحكام عليها، وذلك لأسباب شرعية كثيرة:
1- افتقادها للعلم والعدل: قال ابن القيم -رحمه الله-: "الحكم بين الناس يجب أن يُبْنَى على العلم والعدل، لا على الجهل والهوى" (الطرق الحكمية).
والبشعة لا تقوم على عِلْمٍ قطعيٍّ، بل على ردة فعل جسدية قد تختلف بحسب الخوف أو التوتر أو المرض؛ فكيف يُؤْخَذ بها في الدماء والأموال والأعراض؟!
2- أنها من أعمال الجاهلية: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، فالبشعة مبنية على الظن لا العلم، وهي بذلك من طرق الجاهلية التي ردَّها الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"فأما الحكم بالخرص، أو الفراسة، أو البشعة، أو نحو ذلك من الظنون؛ فهذه من طرق الجاهلية، والشرع إنما جاء بالحكم بالعدل، والعدل لا يكون إلا بعلم" (مجموع الفتاوى).
3- أنها تعذيب للمتهم بلا حق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، والبشعة تُعَرِّض المتهم للأذى الجسدي والنفسي، وقد يكون بريئًا، فتجتمع في ذلك جريمتان: ظُلْم النفس وظلم المتهم بلا حقٍّ، فتجتمع في ذلك جريمتان: ظُلْم النفس، وظُلْم الآخر.
قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية: "أي: لا تقل رأيتَ ولم تَرَ، ولا سمعتَ ولم تَسْمَع، ولا علمتَ ولم تَعْلَم؛ فإن الله سائلُك عن ذلك كله" (تفسير ابن كثير).
4- أنها تُشْبِه الاستقسام بالأزلام، وليس لها أصل في الشرع الشريف.
5- أن الشريعة بيَّنت طرق إثبات الجرائم، وهي: "الإقرار - البينة (الشهود) - القَسَم في بعض المواضع"؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) (متفق عليه).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنهم-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وما عدا ذلك فباطلٌ شرعًا.
وإذا كانت طريقة التقاضي وتقصِّي الحقوق أمرًا محددًا معلومًا في الشرع؛ فكذلك البينات ليست متروكة لأهواء الناس وأعرافهم، فما عَدَّه الناس بينة ودليلًا، فليس مقبولًا في الشرع، لا بل إن الشرع حدَّد ذلك كله، وفَاوَتَ بين هذه البينات بحسب كل قضية؛ لئلا يقول قائلٌ، أو يدَّعي مدَّعٍ.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الشرع لا يُثْبِت الحق إلا ببينة عادلة أو إقرار صحيح، وما سوى ذلك فليس بحجة شرعية" (إعلام الموقعين).
إنما يجب أن نعمل بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) (رواه البيهقي)؛ فهذا الحديث الشريف رَسَمَ لنا طريق المطالبة بالحق وإثباته أو نفي الادعاء الباطل، وهذا ما يجب على المسلمين أن يتمسَّكوا به دون سواه من الطرق السيئة التي لا أصل لها في الشرع، بل وتُنَافِي العقائد الثابتة بخصوصية الله -تعالى- بعلم الغيب؛ قال -تعالى-: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (الأعراف: 188).
ثالثًا: الخاتمة:
والحاصل مما سبق: أن البشعة من أعمال الجاهلية وفيها حكمٌ بغير ما أنزل الله، فلا يجوز اللجوء إليها، ولا يُعَوَّل عليها في إثبات الجرائم أو نفيها. وكم وقعت فتن بين الناس، وقُطِعَت أواصر وأرحام، وانتشرت عداواتٌ بسبب هذه الطرق الجاهلية، فهي طريقة فاسدة لا تُعْتَمَد في دين الله، وهي باطلة شرعًا وعقلًا، لما فيها من: مخالفة لأصول القضاء الإسلاميِّ، وإيذاء المسلم بغير وجه حقٍّ، والظن والجهالة بدل العلم والعدل.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "العدل أساس كل حكم، والعدل لا يقوم إلا على العلم، لا على الظن والتخمين" (الطرق الحكمية).
فالواجب على القضاة وأهل الحلِّ والعقد ردُّ مثل هذه الطرق الجاهلية، والاعتماد على الوسائل الشرعية المأمونة في الإثبات والنفي.
وأما تفسير أنها بالفعل تُحْرِق البعض ولا تُحْرِق البعض الآخر؛ فهذا غالبًا ما سيكون من عمل الجن، وبالتالي تَدْخُل في الكهانة، ومِن ثَمَّ يزداد إثمُها.
فنسأل الله أن يحفظ علينا ديننا، وأن يجنِّبنا الخرافات والفتن، ما ظهر منها وما بطن.