كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبشِّر أصحابه؛ فقد قال لأعرابي: "أبشر"، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَا تُنْجِزُ لِي يَا مُحَمَّدُ مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَبْشِرْ!)، فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا قَدْ رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا). فَقَالَا: قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ. (متفق عليه).
وقال للأنصار: (فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ) (متفق عليه).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يبشِّر أصحابه بالنصر والتمكين، وظهور الدين عند الشدائد والأزمات -كما في هذا الحديث-؛ فقد بشَّرهم بفتح اليمن والشام والعراق، وقال لهم: "فأبشروا"، وتلا قوله- تعالى-: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (الأنعام: 115)، أي: كلمة النصر التي كتبها الله لدينه ورسوله في الدنيا والآخرة، وقد كانوا في شدة عظيمة، وصفها الله -تعالى- بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (لأحزاب:9-11).
وكان من أثر التبشير على نفوسهم أن كبَّروا كما كبَّر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي مكة كان الاضطهاد على أشده بأصحابه، فجاءه خباب -رضي الله عنه- في أصحاب له يقولون: "أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟!"، قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ! فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه).
ولما رجع -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، قال له زيد بن حارثة -رضي الله عنه-: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوكَ؟ -يَعْنِي قُرَيْشًا-، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا زيد: إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ" (الطبقات الكبرى لابن سعد).
وذلك لما في التبشير من تفاؤل وحسن ظنٍّ بالله -تعالى-، وترقُب للخير، وأثر عظيم على سعادة النفس، وانطلاقها لتحقيق أهدافها، وتحويلها من كسل إلى نشاط، ومن قعود إلى بذل، ومن هزيمة إلى نصر، بعكس الأخبار السلبية المُحبطة؛ فإنها تقعد بالنفس عن طلب ما يُصلحها، بل ويهزمها من غير معركة.
ولنضرب -مثلًا- لذلك بما حدث يوم أُحُد، عندما صاح الشيطان: إن محمداً قد قُتل! فماذا فعل الصحابة -رضي الله عنهم-؟! منهم مَن استسلم للقتل، ومنهم من ترك سلاحه وقعد عن القتال، وهؤلاء انتهى إليهم أنس بن النضر، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، إني والله لأجد ريح الجنة من قبل أُحُد! فقاتل حتى قُتل -رضوان الله عليه-، ووُجد به سبعون ضربة. (جوامع السيرة).
وعليه: فينبغي للمؤمن أن يتفاءل، وأن يستبشر بوعد الله، وأن ينتظر فرجه، وأن يفوض أمره لله -تعالى-، ويتوكل عليه في نصرة الدين وفي أمره كله.
كتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي عبيدة -رضي الله عنه-: "مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعده فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين" (رواه الحاكم، والبيهقي في الشعب).
ولكي يكون المؤمن كذلك؛ فلا بد من حُسن الصلة بالله -تعالى-، والأخذ بأسباب زيادة الإيمان، وأن يمضي لتحقيق هدفه بنية خالصة وعزم صادق، لا يلتفت، ولا يتوقف، ولا يستسلم، ولا يضعف مهما تراكمت عليه الأعباء، أو تزاحمت المشاغل، ولا يفكر في المفقود حتى لا يضيع الموجود.
والله المستعان.