الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 26 ديسمبر 2024 - 25 جمادى الثانية 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (192) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (8)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).

الفائدة التاسعة:

ذكرنا في المقال السابق: أن طاعة الشيطان في الكفر والشرك هي العبادة له، وأما طاعته في غير الشرك، فإنها لا تطلق أنها عبادة له؛ إلا مع بيان أنها من الشرك الأصغر.

ويُلَاحظ: أن كثيرًا من الناس يسب الشيطان ويلعنه، ولكنه مع ذلك مطيع له وعابد له، كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ينفون عن أنفسهم عبادة الهوى، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر، كان ذلك عبادة للهوى؛ قال الله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (الفرقان: 43).

وكما يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، وذلك إذا باعوا دينهم من أجل هذه الأعراض من أعراض الدنيا، وأما مَن يقدِّم حب الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة على طاعة الله، ولكنه لا يرضى أن يقدمها على توحيد الله -عز وجل-؛ فهذا نوع عبادة، وهي شرك أصغر.

وكذلك يذمون طالب الرياسة، وهم في أنفسهم طالبون لها، كما ذمَّ قوم فرعون موسى وهارون -عليها السلام- بالباطل؛ حيث قالوا: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) (يونس: 78)، فنسبوا إليهما على وجه الذم أنهما يريدان الكبرياء، مع أن قوم فرعون وأشباههم من أهل الرياسة والمُلك هم الذين يريدون الكبرياء، ويتهالكون في سبيل ذلك، ثم هم يذمون مَن يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، وإلا للمحافظة على الطريقة المثلى، ووالله ما هي بمثلى.

وطلب الرياسة والملك والجاه قد يكون شركًا أكبر إذا كان صاحبه يكفر ويبيع دينه من أجل الرياسة والجاه والملك، ويكون شركًا أصغر إذا كان يعصي الله -سبحانه وتعالى- في المحافظة على المُلك والجاه أو في طلبهما.

وعلى الرغم من أن هؤلاء الذين يعبدون الشياطين، وفي الوقت نفسه يذمونها، ويعبدون الأهواء ويزعمون التبرؤ منها، ويعبدون الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة وهم يذمون مَن يريد المال، ويقولون: هذا يشترى بالمال! يذمون ذلك... مع أنهم يَقْتُلون ويُقتَلون من أجله!

وهذا التبرؤ لا يغني عنهم شيئًا، فكونهم لا يسمونها عبادة -مع أنها في الحقيقة عبادة-؛ لا يغني عنهم شيئًا.

وكذلك مَن يعبد غير الله من الأموات، ويصرف لهم أنواع العبادات من الدعاء والاستغاثة والاستعانة، وطلب المدد، وطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، والأرزاق والأولاد، وهو في كل ذلك لا يسمي ذلك عبادة، وهي شاء أم أبى عبادة لهذا الميت، وإن أجازها أهل الباطل والضلال؛ بزعم أنها على سبيل السببية، أن طلب قضاء الحاجات من الأموات على سبيل السببية جائز -ونعوذ بالله-، فما كان شرك المشركين إلا بذلك (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3).

والحقيقة -التي لا شك فيها-: أن قلب الإنسان يتعلَّق بهؤلاء، ويتطور به الحال إلى أن يعتقد أنهم يملكون الأرزاق، ويدبرون الكون، ويملكون العطاء والمنع -نعوذ بالله من ذلك-.

وكذلك من يعبد غير الله من الكبراء والسادة، والأحبار والرهبان، ممَّن يقبل تشريعه من دون الله مخالفًا لما شرع الله وإن لم يسمها عبادة، كما قال عدي بن حاتم -رضي الله عنه- عن حال النصارى قبل أن يتم إسلامه عندما سَمِع قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة: 31)، قال: قلتُ: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟)، قال: قُلتُ: بَلَى! قال: (‌فَتِلْكَ ‌عِبَادَتُهُمْ!) (رواه الترمذي والطبراني، وحسنه الألباني).

فعدم تسمية العبادة عبادة لا ينفع صاحبه إذا قامت عليه الحجة ووصلت إليه؛ لأن هذه عبادة لهؤلاء من دون الله، كما أن طاعة الشيطان في الكفر طاعة له من دون الله، ولو ظل عابده يلعنه بالليل والنهار!

وتأمل في تعليم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه في قوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) فهذا التعليل؛ لبيان أن طاعة الشيطان في معصية الرحمن مع تجويز هذه المعصية وتصحيحها، هو من الكفر -والعياذ بالله-.

ولذلك نقول: إن طاعة الشيطان في المعصية معصية، بشرط اعتقاد أنها معصية، بعد بلوغ الحجة الرسالية، وأما طاعته مع تصحيحها وتصويبها كما يفعل أهل الغرب في زندقتهم في استباحة الفواحش والمحرمات بزعم أنها حرية؛ فإن ذلك -والعياذ بالله- كفر، وعبادة للأهواء، وعبادة للشيطان.

ثم ذَكَّر إبراهيم -عليه السلام- أباه بصفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهورًا واضحًا جليًّا لكلِّ مَن يتأمل، فآثار هذه الرحمة العامة فيما خلقه الله للبشر، وفيما خلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم وعلى أولادهم، بل بجعلها -سبحانه وتعالى- في الدواب، لا تخفى على أحدٍ.

وآثار رحمة الله لأهل الأرض من أنهار وأمطار بالليل والنهار، وأنواع الرحمات، أمر ظاهر لا ينكره متأمل.

يذكِّر إبراهيم أباه بأن الرحمن يريد لنا الرحمة، والشيطان عاصٍ له؛ فهل تعبده بطاعته في الكفر -والعياذ بالله-، فتفقد أسباب الرحمة الربانية؟!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.