الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 15 يوليه 2024 - 9 محرم 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (171) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??).

الفائدة السادسة:

قوله -تعالى-: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)، الترتيب في سورة الحِجْر بين البشارة بالولد أولًا ثم الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط لإهلاكهم، وفي سورة هود ذكر الإشارة بإهلاك لوط أولًا، ولما ضحكت سارة بعد أن عرفت حقيقة الرسل، واطمأنت وأَمِنَت من أن يكون منهم شر بُشِّرت بالولد: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71).

والجمع بين الآيات ممكن واضح؛ إذ إن الترتيب في سورة الحجر ترتيبُ ذِكرٍ، وليس بترتيب زمن، والآيات فيها الجمع بالواو في بعض الأحداث، وفي بعضها ذكر الخبر دون أداة ترتيب، أما في سورة هود ففيها أداة الترتيب الفاء، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . ‌وَامْرَأَتُهُ ‌قَائِمَةٌ ‌فَضَحِكَتْ ‌فَبَشَّرْنَاهَا ‌بِإِسْحَاقَ ‌وَمِنْ ‌وَرَاءِ ‌إِسْحَاقَ ‌يَعْقُوبَ) (هود: 70، 71).

وكذلك ما وقع من الملائكة ولوط، ففي سورة هود بيَّن -عز وجل- أن لوطًا لم يعرف الرسل إلا في آخر الأمر بعد قدوم قومه مريدين للفاحشة من ضيوفه حتى قال لهم: (قَالَ ‌لَوْ ‌أَنَّ ‌لِي ‌بِكُمْ ‌قُوَّةً ‌أَوْ ‌آوِي ‌إِلَى ‌رُكْنٍ ‌شَدِيدٍ . قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) (هود: 80، 81).

وأما في سورة الحجر، فذكر أنهم قالوا له: (‌بَلْ ‌جِئْنَاكَ ‌بِمَا ‌كَانُوا ‌فِيهِ ‌يَمْتَرُونَ) (الحجر: 63)، مع ذكر مجيئهم له أولًا، وهي في الحقيقة في آخر القصة بعد مجيء قومه كما ذكرت في سورة هود، والجمع كما ذكرنا أن الترتيب في سورة الحجر هو في ذكر مجموع الأحداث لا بترتيبها الزمني. والله أعلم.

مثل قوله في سورة الأنعام: (‌وَأَنَّ ‌هَذَا ‌صِرَاطِي ‌مُسْتَقِيمًا ‌فَاتَّبِعُوهُ ‌وَلَا ‌تَتَّبِعُوا ‌السُّبُلَ ‌فَتَفَرَّقَ ‌بِكُمْ ‌عَنْ ‌سَبِيلِهِ ‌ذَلِكُمْ ‌وَصَّاكُمْ ‌بِهِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ . ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 153، 154).

فقد قال أهل العلم: إنه عطف جملة على جملة من باب ذِكْر الأحداث مجتمعة، وليس بترتيبها الزمني، نحو قول الشاعر:

قُل لِمَن سادَ ثُمَّ سادَ أَبوهُ             قَبلَهُ ثُمَّ قَبلَ ذَلِكَ جَدُّه

فإذا احتمل هذا في لغة العرب مع وجود أداة الترتيب ثُمَّ؛ فبالأولى يجوز إذا لم تُذكَر، أو ذُكِر الجمع بالواو.

الفائدة السابعة:

في هذه الآية إثبات الإرسال الكوني، وهو بخلاف الإرسال الشرعي الذي أرسل الله به الرسل بالرسالة الشرعية، وأرسل الرسول الملكي إلى الرسول البشري وأرسل الرسول البشري بأوامر الله -عز وجل- ونواهيه إلى الناس الذين أرسل إليهم، وبما يجب من أخبارٍ يلزم تصديقها، وهذا الشرع الذي شرعه لهم؛ أما الإرسال الكوني فهو هنا للإهلاك، ومِن هذا الإرسال الكوني: قوله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف: 57)، وقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (مريم: 83)، أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا.

وهذا الإرسال الكوني لا يتضمن أمرًا شرعيًّا إلى المكلفين، وإن كانت الملائكة في قصة إبراهيم يمتثلون أمر الله بإهلاك قوم لوط، لكنهم لم يحملوا رسالة إليهم؛ إلا ما كان من أمر لوط وأهله بأن يسري بأهله بقطع من الليل، قال الله -تعالى- عنهم: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 65)، لكن خبرهم لإبراهيم بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وقول إبراهيم لهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) المقصود به الإرسال لإهلاكهم؛ فهو الإرسال الكوني بلا شك.

الفائدة الثامنة:

قول الملائكة: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) دليل على أن الشذوذ الجنسي فعل قوم لوط، وكذا السحاق جريمة مستوجب للعقوبة الإلهية العظيمة في الدنيا، وكذلك في الآخرة، وليس كما يقول زنادقة الغرب ومَن وافقهم الذين لا يلتزمون بشريعة -لا يهودية ولا نصرانية ولا إسلام-: إنها حرية شخصية! وأن هذه الممارسات من حقوق الإنسان؛ سواء كانت لواطًا أو سحاقًا، أو غير ذلك من الأنواع العديدة التي يسمونها: النوع المجتمعي، وكذا الرغبة في التحول من الجنس إلى الجنس الآخر دون مقتضى طبي؛ هذا القول تكذيب للقرآن والتوراة والإنجيل، وإباء واستكبار عن شريعة الله.

وكل مَن نفى الجريمة عن فاعل الشذوذ فهو كافر، وإن كان مسلمًا قبل ذلك فهو مرتد، وإن كان كتابيًّا زال عنه وصف الكتابي، وصار وثنيًّا لا تحل ذبيحته، ولا يجوز الزواج من نسائهم، ولو وُجِدت امرأة في أوروبا أو أمريكا أو غيرها، ترى جواز فعل اللواط أو السحاق، وأنه حرية شخصية؛ فهي وثنية لا يجوز الزواج منها؛ لأنها فقدت وصف الكتابية بالإباء والرد للشريعة المتواترة في كلِّ شرائع الأنبياء، بوصف فعل قوم لوط بالإجرام، واستحقاقهم للهلاك.

والمحاولات المستميتة لنشر حرية الشذوذ في العالم، وتصحيح زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، بعد تصحيح المعاشرة؛ هذا كفر زائد لأنهم يسمونه: زواجًا، وتسميته زواجًا استحلال، وهو في الحقيقة إباء ورد.

وكذلك تجويز تكوين أسرة بين رجلين، أو امرأتين؛ أحد الرجلين يقوم بدور الزوج ثم الأب بعد ذلك، والآخر يقوم بدور المرأة الموطوءة ويقوم بدور الأم بعد ذلك، وهذا ينشرونه في العالم ويحاولون بكل طريق قبول العالم له، كما نصوا على ذلك في اتفاقية "سيداو" وما لحقها من اتفاقيات، ويسمون هذا: بالنوع المجتمعي، ويسعون لنشره في العالم ضمن ما سموه بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة حتى عام 2030؛ فهذا كله الكفر والردة عن الإسلام، والنفاق الأكبر إن كان صاحبه يتسمى بالإسلام، كما في إعلان ما سُمِّي بوثيقة الإسلام في فرنسا الذين تعهدوا بقبول الشذوذ وعدم احتقار أصحابه أو ذمهم؛ فكل ذلك يخالف كل شرائع الأنبياء؛ لا يجوز قبوله، ولا المعاونة عليه بحالٍ من الأحوال؛ وإلا فقد خرج المقرُّ والمعاوِن والراضي، عن دين الإسلام بتكذيب القرآن.