كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
4- القوة البحرية للاتحاد الأوروبي:
يتم نقل حوالي 90 % من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي و40 % من تجارته الداخلية عن طريق البحار والمحيطات، ومع ذلك فقد شهدت القوات البحرية الأوروبية تقلصًا كبيرًا في حجمها في العقود الثلاثة الأخيرة نتيجة الخفض المستمر في حجم الإنفاق الدفاعي البحري في أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي؛ إذ تراجعت القوة البحرية الأوروبية مع غياب أولويات التهديدات البحرية ففقدت القوات البحرية الأوروبية 32% من أعداد مقاتلاتها الرئيسية من الفرقاطات والمدمرات بين عامي: 1999 و2018، وأصبح لديها في عام 2021 فقط 116 مقاتلة سطحية كبيرة بدلًا من 197 مقاتلة، و66 غواصة بدلًا من 129 غواصة، ولهذا أثره على القدرات القتالية لقوات الاتحاد الأوروبي، وأصبح تركيز القوات البحرية الأوروبية على مهام منخفضة المستوى من مكافحة الصيد غير المشروع، ومكافحة الهجرة غير المشروعة، وعمليات البحث والإنقاذ، ومكافحة أعمال القرصنة.
وقد شاركت بعض أساطيل البحرية الأوروبية في مهام متعددة: كالاشتراك في عمليات مكافحة القرصنة في خليج غينيا وقبالة سواحل الصومال، ومهام مراقبة حظر توريد السلاح في البحر المتوسط، والاشتراك كذلك في دعم التدخل العسكري المباشر كما في العملية الليبية عام 2011، وكلها عمليات ذات تأثير محدود؛ لذا فمع تصاعد المنافسة في الآونة الأخيرة بين الغرب وبين الصين وروسيا، والتي تنامت معها احتمالات المواجهة ونشوب حرب، فإن القوات البحرية الأوروبية تبدو وكأنها غير مستعدة لذلك.
ولاستعادة النفوذ والسيادة والانتشار للبحرية الأوروبية يسعى الاتحاد الأوروبي لتطوير إستراتيجية متكاملة للأمن الأوروبي البحري من خلال عدة مسارات، منها:
- إصدار الاتحاد الأوروبي لإستراتيجيته للأمن البحري في يونيو 2014 والتي تم تحديثها في 2018، ووضع تقرير لتنفيذ خطة للعمل في عام 2020، وهي الإستراتيجية التي تحدد المصالح الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي في الفترة القادمة في مجال الأمن البحري، وكيفية دفاع الاتحاد الأوروبي عن هذه المصالح، من خلال تحقيق عدة أهداف رئيسية، منها: تعزيز الأمن والسلام العام، حرية الملاحة، مراقبة الحدود الخارجية، تطوير البنية التحتية البحرية والموانئ، وتأمين خطوط الأنابيب والكابلات تحت الماء، وحماية الموارد الطبيعية، وتأمين البيئة البحرية، وأخيرًا التأهب للتغيرات المناخية. وقد انعكس ذلك في توسيع التعاون بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي مما أسفر عن نتائج ملموسة في عمليات المراقبة البحرية المشتركة، والتعاون مع الشركاء؛ خاصة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا.
- إعداد آلية جديدة للحضور البحري المنسق والتي تم تطويرها في عام 2020 لتعزيز مشاركة الاتحاد الأوروبي في مجال الأمن البحري، من خلال زيادة قدرة الاتحاد الأوروبي كشريك موثوق به، وضمان الوجود البحري الدائم في مناطق الاهتمام البحرية، وتعزيز التعاون والشراكة الدولية في البحر، وهي آلية توفر إطارًا للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتوحيد الجهود، ويمكن تنفيذها في أي منطقة بحرية ذات اهتمام، إلى جانب توظيف الأصول البحرية الحالية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الموجودة ومنتشرة في مناطق الاهتمام البحرية.
وقد تم تفعيل تلك الآلية للاتحاد الأوروبي في خليج غينيا في عام 2021 والتي نجحت في مواجهة تحديات الأمن البحري هناك، ومواجهة تحديات حرية الملاحة، والحد من حوادث الأمن البحري بأكثر من 50 % في عام 2021، مما جعلها أداة فعالة لضمان استمرار الوجود الأوروبي في هذه المنطقة. وقد تم تفعيل تلك الآلية أيضًا في منطقة شمال غرب المحيط الهندي في فبراير 2022 لتعزيز التركيز الإستراتيجي، وضمان الوجود الأوروبي في المحيطين: الهندي والهادي، وتعزيز الشراكة والتعاون فيهما.
- وللعب دور في المنافسة الإستراتيجية المتنامية، كان سعي الاتحاد الأوروبي لتكثيف المناورات البحرية المشتركة، ويعد أوضح مثال لها: المناورة العسكرية في أواخر عام 2012 في غرب البحر المتوسط والتي نظمتها فرنسا، وشاركت فيها قوات بحرية من أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان، والتي تحاكي معركة بحرية واسعة غرب المتوسط؛ بهدف ضمان جاهزية القوات الأوروبية لعودة الحروب التقليدية بين الجيوش المتكافئة.
- إعلان مفوضية الاتحاد الأوروبي في يوليو 2022 عن دعم 61 مشروعًا مشتركًا للبحث والتطوير في مجال الدفاع بإجمالي 1.2 مليار يورو من خلال صندوق الدفاع الأوروبي، وتواجه طموحات الاتحاد الأوروبي في استعادة قوته البحرية وإعادة دوره في الأمن البحري العالمي تحديات عديدة تضع قوته البحرية تحت ضغط.
ومن هذه التحديات:
- أن التحول المطلوب لن يحدث بين عشية وضحاها حتى مع تخصيص الأموال اللازمة؛ لأن تصميم وبناء السفن العسكرية والغواصات يستغرق عقودًا.
- تزايد حاجة العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى المشتريات العسكرية.
- حاجة الدول الأعضاء إلى تعزيز التعاون الصناعي بينها.
- الحاجة إلى مواصلة التدريبات المشتركة الجماعية لأعضاء الاتحاد الأوروبي للتمرين على الاستجابة للمواقف العالية الكثافة، من خلال التخطيط التشغيلي المشترك على مستوى حلف الناتو أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، وكذلك للكشف عن أي أوجه قصور في الأسلحة والأدوات البحرية خاصة الحديثة منها.
- أنه لا تزال هناك دول أوروبية تضع قيودًا على الميزانية، أو تحاول الحفاظ على التوازن بين مختلف فروع جيوشها، مما يؤثر سلبًا على زيادة الإنفاق المطلوب في المجال البحري.
- الحاجة المتزايدة إلى العمل الجماعي الأوروبي أكثر من الحالي؛ إذ لم تعد هناك دولة أوروبية يمكنها العمل بمفردها في التنافس الإستراتيجي البحري، باستثناء فرنسا وبريطانيا في بعض السيناريوهات المحدودة؛ لذا سيشكل الاستثمار والتدريب والعمل الأوروبي الجماعي شكلًا أفضل يجعل الصورة قطعا تختلف.
5- القوة البحرية اليابانية:
تعد اليابان والهند قوتين بحريتين إقليميتين رئيسيتين في منطقة الإندو - باسيفيك (منطقة المحيطين: الهندي والهادي)، حيث يعملان على زيادة قوتهما البحريتين لتعزيز سيطرتهما على تلك المنطقة في ظل المنافسة من الصين.
وتعد اليابان قوة بحرية قديمة، ظهرت كقوة في شرق آسيا في نهاية القرن التاسع عشر، واستطاعت أن تهزم روسيا والصين في مطلع القرن العشرين، وسيطرت بحريًّا على المنطقة حتى لاقت هزيمتها الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، والتي تم بعدها حل البحرية اليابانية، وتقييد كل أنشطتها العسكرية بشكل صارم من خلال المادة التاسعة من الدستور الياباني، وتم تشكيل قوة للدفاع الذاتي البحري الياباني في عام 1954، والتي يقتصر دورها على الدفاع عن سواحل اليابان.
تقوم إستراتيجية الأمن البحري اليابانية حاليًا على قسمين: الأول: يتعلق بمياه اليابان الأصلية، والثاني: يتعلق بالممرات البحرية بين المحيط الهندي والمحيط الهادي. وتواجه اليابان ضغوطًا أمنية كبيرة ومخاوف هي من إرث الحرب العالمية الثانية، وتعاني من تقييد حرية التعاون مع جيرانها: روسيا والصين والكوريتين، هذا في ظل نزاعات وصراعات إقليمية ودولية في المنطقة؛ فلليابان نزاع إقليمي مع الصين على جزر (دياويو)، ومع كوريا الجنوبية حول جزر (دوكدو / تاكيشيما)، ومع روسيا حول جزر (الكوريل). وتعاني اليابان من تهديد التحديث العسكري للصين وتطورها البحري السريع، ومن تهديدات الصواريخ الباليستية لكوريا الشمالية؛ خاصة في ظل دعم طوكيو لعقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد كوريا الشمالية، وهذا كله يدفع اليابان إلى محاولة الاستفادة من تحالفها مع أمريكا، ونشرها القوات في أماكن التهديد الأكثر خطورة، وتعزيز العلاقات الإيجابية مع الشركاء من أصحاب القدرات البحرية المتزايدة.
ويعد التحدي الأكبر لليابان هو أنها بحكم الدستور ممنوعة من امتلاك أسلحة أو منصات هجومية، كما يعاني الأسطول الياباني من نقص في تجديد السفن وفي مجالات الدعم اللوجيستي، مما يعرض قوات الدفاع الذاتي للبحرية اليابانية للخطر عند العمل أو أداء أي مهام بشكل مستقل عن الأسطول البحري السابع الأمريكي، وعن القوات الجوية الأمريكية في المنطقة. ورغم أن اليابان تمتلك قاعدة تقنية متطورة وتتفاخر عالميًّا بقدراتها على بناء السفن؛ إلا أنها ممنوعة بحكم الدستور من امتلاك حاملات طائرات هجومية أو قاذفات إستراتيجية بعيدة المدى أو صواريخ باليستية عابرة للقارات؛ لذا فرغم أن اليابان تتمتع بميزة تكنولوجية وبقاعدة صناعية دفاعية، فتطورها البحري محدود.
الأنشطة البحرية اليابانية:
لتحقيق تأثير في الوضع الأمني البحري في جنوب شرق آسيا عملت قوة الدفاع الذاتي للبحرية اليابانية على نشر سفنها في المنطقة في إطار الجهود المتعددة الأطراف، فمن ذلك: استجابة سفن وطائرات قوات الدفاع الذاتي اليابانية في عام 2004 لتسونامي المحيط الهندي، والمشاركة عام 2005 في المنتدى البحري لغرب المحيط الهادي الذي استضافته بحرية سنغافورة، والمشاركة في تدريبات بحرية ترعاها منظمات متعددة الأطراف، مثل: المنتدى البحري لغرب المحيط الهادي والمنتدى الإقليمي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا، وهي وإن كانت بسيطة، لكنها تهدف إلى إعادة بناء الثقة أكثر منها تعزيزًا للقدرات الفعلية، كما أجرت القوات البحرية اليابانية أنشطة ثنائية مع ثماني دول شريكة من دول بحر الصين الجنوبي ومن دول خليج البنغال الساحلية.
وقد عملت البحرية اليابانية على إجراء تدريبات بعيدة عن مياهها المحلية ومع دول أخرى غير أمريكا، كما في تعزيز التعاون مع البحرية الهندية، حيث تم تنفيذ مناورات مشتركة بين البلدين وسط بحر العرب في عام 2020 و2021، والتي أظهرت مستوى عاليًا من قابلية التشغيل البيني، وقد اعتبرها البعض أنها تحد موجه ضد الصين في ظل المنافسة البحرية في منطقة المحيط الهندي.
6- القوة البحرية الهندية:
ظلت الهند منذ استقلالها قوة برية تركز على التهديدات القادمة من حدودها الغربية وجبال الهيمالايا وانحصر اهتمامها البحري على الدفاع عن سواحلها وحماية جزرها، ثم بدأت في التحول البحري من خلال ربط نفسها بشكل كبير والانخراط بشراكة مع دول شرق وجنوب شرق آسيا. وفي حدث بارز ساهمت البحرية الهندية في أعمال الإغاثة في زلزال وكارثة تسونامي عام 2004، والتي كانت اختبارًا لقدراتها البحرية والبرمائية وإسقاط القوات، والتي كشفت عن أوجه قصور دفعت القادة الهنود إلى القيام بحملة لتحديث القوات البحرية ولتصنيع الغواصات، حيث يمتلك الأسطول الهندي 17 غواصة من الغواصات القديمة الآخذة في التراجع، حيث استهلك 80 % منها مدة الخدمة ويقترب من الخروج من الخدمة، ولم يتم تطوير إلا القليل منها، خاصة في ظل تحكم الهند في الممرات البحرية التي تمر من أوروبا وإفريقيا إلى الصين، خاصة عبر مضيق (ملقا)، ولكن يشهد التحديث البحري الهندي تراجعًا بسبب تقليص ميزانيات الدفاع، وعدم توافق طموح السيطرة البحرية مع النفقات العسكرية الحالية.
مقارنة بين البحرية اليابانية والهندية:
تماثل القوة البحرية الهندية القوة البحرية اليابانية، ورغم إعادة البحرية اليابانية هيكلة قدراتها عدة مرات لجعلها أكثر فاعلية؛ إلا أنها لم تزد من قدراتها من حيث الكمية، وتمتلك البحرية الهندية حاملة طائرات واحدة في الخدمة الفعلية، في حين أن اليابان ليس لديها حاملات طائرات. وقد أدخلت الهند سفينة روسية الصنع في الخدمة عام 2012، كما أدخلت تكنولوجيا الصواريخ البحرية متوسطة وبعيدة المدى في قواتها البحرية. ورغم تخلف القاعدة الصناعية الدفاعية الهندية عن مثيلتها اليابانية، ورغم المعاناة من انخفاض الميزانيات وارتفاع تكاليف الإنتاج والتكنولوجيا، لكن تقوم أحواض بناء السفن الهندية ببناء السفن، وتطمح إلى تطوير وبناء أنظمة متطورة، خاصة وأن لديها برامج بحث وتطوير محلية، لكنها تعاني من البيروقراطية وقيود الميزانية؛ ما يجعل تحقيق التغيير المطلوب يحتاج لعقود، وتعتمد أنظمة الجيش الهندي حاليًا على عمليات الشراء الأجنبية حيث يتم استيراد أكثر من 70 % من الأسلحة.
وخلاصة القول: إن البحرية اليابانية لديها ميزة تكنولوجية، وتمتلك قاعدة صناعية دفاعية، لكن تطورها البحري محدود بسبب القيود الدستورية، بينما البحرية الهندية ليس عليها قيود، لكنها تعاني مشكلات في القدرة الإنتاجية المحلية، ودائمًا تعيق البيروقراطية تطويرها.
الأنشطة البحرية الهندية:
يمتد النشاط البحري الهندي إلى المحيط الهندي وإلى غرب ووسط المحيط الهادي بما في ذلك بحر الصين الجنوبي. ومع زيادة التواجد في منطقة الإندو باسيفيك تعد الجزر ذات المواقع الاستراتيجية في المحيط الهندي ضرورة للسيطرة البحرية وحماية الموارد الطبيعية البحرية. وللهند اتفاقيات مع عدة دول للوصول إلى قواعدها البحرية، منها: اتفاقات لوجيستية مع قواعد بحرية أمريكية وفرنسية في المنطقة، واتفاقية مع أستراليا لاستخدام جزر (كوكوس) التي تقع في منتصف طرق التجارة البحرية بغرض المراقبة البحرية المشتركة. وللهند أيضًا مرافق للمراقبة البحرية في مدغشقر وموريشيوس وقاعدة لوجيستية في جزيرة سيشل مع ترتيبات تتيح لها الوصول إلى المنشآت البحرية في جيبوتي. وللقوات الهندية مناورات بحرية متعددة الأطراف مع 16 دولة في المحيط الهادي، وتعاون وتدريب بحري مشترك مع أمريكا وأستراليا واليابان.
امتداد الصراع الدولي إلى القطب الشمالي:
مع تغيرات المناخ وتوقعات بانحسار الجليد وتحول القطب الشمالي إلى مسطح مائي مفتوح، تتوقع تقديرات دولية أن يكون القطب الشمالي خاليًا من الجليد في فترات الصيف عام 2035 مما ينذر بتحوله إلى ساحة صراع جديدة بين القوى الدولية لدوافع وأهداف مختلفة:
فمن الناحية الأمنية:
- فإن لروسيا حدود يبلغ طولها أكثر من 24 ألف كيلو متر مع القطب الشمالي، تشكل بها الأراضي الروسية نحو 53 % من ساحل القطب الشمالي، مما يهدد أمنها القومي تحول القطب الشمالي إلى مسطح مائي؛ لذا فتحتاج موسكو حتمًا إلى التوسع العسكري في القطب الشمالي بهدف الدفاع عن حدودها.
- ورغم أن الأراضي الأمريكية لا تشكل إلا نحو 8و3% من ساحل القطب الشمالي، فهي تعتبر ساحلها على القطب الشمالي موقعًا إستراتيجيًّا لإمكانية تعرض الأراضي الأمريكية للتهديد بتوجيه ضربات عسكرية منها، أو إمكانية استخدامه لتوجيه ضربات عسكرية ضد موسكو منها؛ بالإضافة إلى كون القطب الشمالي سيصبح ممرًّا إستراتيجيًّا بين المحيطين: الهادي والأطلنطي.
ومن الناحية الاقتصادية:
فسيكشف ذوبان الجليد مستقبلًا الكثير من الموارد الطبيعية غير المستغلة، من مصايد للأسماك، ومصادر للمعادن والأحجار الكريمة، ولإمكانية زيادة معدلات الرحلات البحرية السياحية في المنطقة من خلال مياه الممر الشمالي الغربي بكندا، وتشير التقديرات إلى أن بالقطب الشمالي 16 % من النفط العالمي غير المستغل و30 % من الغاز الطبيعي غير المكتشف، وهذا حافز لتكثيف دول القطب الشمالي من وجودها العسكري هناك لتأمين هذا المصدر المهم للطاقة. وتعد روسيا حاليًا أهم الدول المستفيدة من موارد القطب الشمالي حيث تشكل موارد القطب الشمالي نحو 25 % من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا.
ومن ناحية الممرات الملاحية:
فمع ذوبان الجليد المتوقع خاصة صيفًا ستتوفر ممرات ملاحية في القطب الشمالي خاصة خلال الممر الشمالي الشرقي والممر الشمالي الغربي، حيث يؤدي استخدام تلك الممرات إلى توفير كبير في الوقت وفي التكلفة مقارنة بالطرق الملاحية التقليدية، فيمكن توفير من 25 % إلى 44 % من المسافة الإجمالية عبر استخدام الممر الشمالي الغربي من الصين أو اليابان إلى الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية مقارنة باستخدام قناة بنما، بينما يمكن توفير من 25% إلى 55 % من المسافة الإجمالية عبر استخدام الممر الشمالي الشرقي من آسيا إلى أوروبا مقارنة باستخدام قناة السويس، كما ستمثل رسوم عبور السفن من هذه الممرات موردًا اقتصاديًّا مهما لدول المنطقة.
ومن هنا تشير المؤشرات إلى تزايد وتنامي الوجود العسكري في القطب الشمالي:
- حيث أعادت روسيا فتح أكثر من 50 موقعًا عسكريًّا روسيًّا كانت تمثل مركزًا للردع في فترة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، كما عمدت روسيا إلى تطوير ترسانتها العسكرية بما يوائم المناخ القطبي وتعزيز وجود القوات الجوية في القطب الشمالي، كما أجرى الأسطول الروسي مئات من التدريبات القتالية، وأجرت روسيا هناك أكبر تدريب نووي استراتيجي لها، وأنشأت أيضًا قيادة إستراتيجية مشتركة جديدة للقطب الشمالي في مقر الأسطول الشمالي للبحرية الروسية.
- وفي المقابل: عملت أمريكا على إعادة بناء مهارات العمل العسكري في الطقس البارد، والتي أهملت خلال عقدين من الحرب في أفغانستان والعراق. وأعلن الجيش الأمريكي عام 2021 عن خطته الإستراتيجية للعمل على توسيع الوجود العسكري في القطب الشمالي وتأسيس مقرات ذات استخدامات متعددة لتدريب القوات الأمريكية على آليات العمل والقتال في الطقس البارد. وفي إطار استعانة أمريكا بحلفائها لتعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي تم تعديل الاتفاق الموقع مع النرويج للسماح بوجود قواعد أمريكية على الأراضي النرويجية، وكذلك السماح بإنشاء ثلاث قواعد جوية ومنشأة بحرية إذا دعت الحاجة لذلك، كما قام الجيش الأمريكي بتخزين كميات كبيرة من المركبات والأسلحة والذخيرة في منشآت في النرويج استعدادا لأي نزاع محتمل. ولزيادة الدوريات في القطب الشمالي تم زيادة عدد المدمرات الأمريكية هناك من أربع إلى ست مدمرات، مع إرسال دوريات منتظمة إلى بحر (بارنتس) الذي يعد الفناء الخلفي لروسيا، إلى جانب السعي لتوسيع الميناء في منطقة (نومي) على الساحل الغربي لولاية ألاسكا، والذي من المتوقع أن يتحول إلى مركز للمياه العميقة يخدم سفن خفر السواحل والبحرية التي تبحر في الدائرة القطبية الشمالية.
ومن المتوقع إرسال ثلاث كاسحات جليد إلى ولاية ألاسكا، وزيادة الاهتمام بجزيرة (جرينلاند) من خلال الحفاظ على الإنذار المبكر لأي هجوم صاروخي على أمريكا من خلال الرادارات الموجودة بالجزيرة؛ إضافة إلى دورها في التحكم على الأقمار الصناعية العسكرية الأمريكية.
- ورغم أن الصين ليس لها حدود مباشرة على القطب الشمالي، لكنها تعد دولة قريبة منه تسعى إلى أن تكون قوة مؤثرة فيه لتأمين مصالحها هناك، وتمتلك الصين كاسحتي جليد، إحداهما تم تصنيعها محليًّا، وبدأ تشغيلها في عام 2019.
وفي هذا التوجه:
- تتوسع الصين في الأنشطة المتعلقة بالبحث العلمي التي تستخدم القطب الشمالي كأرض اختبار لتقنيات جديدة متعلقة بتغطية الأقمار الصناعية والطائرات، مع اكتساب الخبرة في العمل في مناخ في مناخ القطب الشمالي.
- تتوسع الصين في الاستثمارات عبر دول القطب الشمالي، حيث استثمرت أكثر من 435 مليار دولار هناك خلال الفترة من 2102 إلى 2017؛ لاسيما في البحث العلمي والبنية التحتية واستخراج الموارد، وتمثل الاستثمارات الصينية أكثر من 10 % من اقتصاد جرينلاند، و6 % من اقتصاد أيسلندا.
- مع زيادة التعاون الاقتصادي مع روسيا من خلال صفقات شراء الغاز الطبيعي الروسي، وافتتاح خط أنابيب للغاز الطبيعي في 2019 بطول 3000 كيلو متر يربط حقول سيبيريا في روسيا بشمال شرق الصين، والذي تلعب فيه الشركات الصينية دورًا رئيسيًّا.
- مشاركة الصين في التدريبات العسكرية الروسية واسعة النطاق في القطب الشمالي في عامي: 2018 و2019.
ويرى المراقبون احتمالية تصاعد التوترات مع استمرار الحشد العسكري للقوى المتنافسة في القطب الشمالي على المدى الزمني القريب والمتوسط؛ خاصة في ظل توتر العلاقات الروسية الغربية بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، وفي ظل التعاون الاقتصادي والتحالف الروسي الصيني، والتوسع في الأنشطة العسكرية المشتركة بينهما في القطب الشمالي، وفي ظل اكتشاف ثروات طبيعية وبدء انتظام الملاحة في القطب الشمالي.
والمرجح استبعاد اندلاع أي نزاع مسلح بين دول القطب الشمالي، ولكنه قد يحدث على المدى البعيد مع تصاعد التنافس بين أمريكا وروسيا والصين في المنطقة.
ويواجه القتال في القطب الشمالي تحديات كبيرة، منها: إعاقة الملابس التي يستخدمها الجنود للتدفئة للحركة وكفاءة القتال، واحتمالية تسبب الجروح والخدوش في إصابة الجنود المصابين بالغرغرينا المهددة للحياة بسبب شدة برودة الجو، إلى جانب إمكانية تجمد زيوت المركبات والسفن والمحركات، إلى جانب تأثير اضطرابات المغناطيسية القطبية في الغلاف الجوي على جودة الاتصالات، وغير ذلك من التحديات، وكلها تحديات تحتاج إلى التفكير في التعامل معها جيدًا قبل الدخول في أي نزاع مسلح هناك.
للاستزادة راجع:
- ملحق مجلة السياسية الدولية بعنوان: (إستراتيجية تعزيز الهيمنة البحرية) - عدد أكتوبر 2022 م.
- ملحق مجلة السياسة الدولية بعنوان: (تغيرات المناخ والأمن العالمي) - عدد يوليو 2022 م.