خطر التسويف بالأعمال الصالحة
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- تكرير التذكير بفضل القصة وأثرها على قلوب الصالحين: قال كثير مِن العلماء: "ما قرأها أو طالعها أحد إلا رقَّ قلبه".
- حاجتنا إلى الدروس التربوية الكثيرة التي اشتملتها القصة، في زمانٍ غابت فيه التربية وحلت فيه أرذل الصفات الأخلاقية.
- التذكير بالقصة باختصارٍ، ثم الإشارة إلى وقفة اليوم، أو الدرس المأخوذة مِن القصة اليوم.
أولًا: خطر التسويف:
- المقصود بذلك: تأخير فعل الخير بغير مسوغٍ أو مقتضى.
- وهذا هو التسويف الذي وقع فيه الثلاثة -رضي الله عنهم-: قال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ".
- حذر الشرع الحكيم مِن التسويف: قال الله -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:10-11)، وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99-100).
- وحث الشرع على المبادرة بالأعمال الصالحة وعدم التسويف بها: قال الله -تعالى-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء:90)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24)، وقال: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (الحديد:21).
وقال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها".
ثانيًا: أسباب التسويف:
- هذه أبرز الأسباب، ولا يلزم اجتماعها، وإلا فإن الواحدة منها كفيلة بوقوع صاحبها في التسويف، وإن كان بعضها أشد مِن بعض.
1- ضعف الإرادة والعزيمة:
- الشرع يحث على قوة الإرادة في الخير، ويحذر مِن الضعف والعجز والتردد: قال الله -تعالى-: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ) (رواه مسلم).
وقال الشاعر:
إذا كُنتَ ذا رأيٍ فَكُنْ ذا عَزيمَةٍ فـإنَّ فـَسـادَ الــرأيِ أنْ تَـترددا
صور مِن قوة الإرادة ونفاذ العزيمة:
- النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يواجه قريشًا يوم الحديبية رغم المحاولات الكثيرة لإضعافه عن موقفه: قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أزالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ " (رواه أحمد في مسنده بسندٍ حسن).
- أبو بكر -رضي الله عنه- يواجه آراء الصحابة المخالفة له في إيقاف جيش أسامة -رضي الله عنه-، وحروب المرتدين ومانعي الزكاة: فقال -رضي الله عنه-: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننتُ أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته"، وقال في مانعي الزكاة: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ" (متفق عليه).
- الإمام أحمد -رحمه الله- يواجِه فتنة خلق القرآن بقوة إرادة ونفاذ عزيمة، في الوقت الذي ضعف الناس فيه عن مواجهة الأمراء المبتدعين، وانزوى بعض العلماء صيانة لعرضه ونفسه.
2- ضعف الاحتساب:
- المحتسب للأجر وطلب الدرجات عند الله، ما إن يبلغه دليل الفضل والأجر، يقبل على الخير غير مسوف، وتهون عنده الصعاب: عن عبد الله بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: سَمِعْتُ أَبِي، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)، فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ" (رواه مسلم)(1).
- أهل الاسلام أولى بالاحتساب والصبر لنيل المنازل العالية عند الله: قال الشيخ "محمد إسماعيل المقدم" في علو الهمة (ص 2965): "قال د.عبد الودود شلبي في كتابه: "محكمة التاريخ": أذكر أنني ترددت كثيرًا جدًّا على مركزٍ مِن مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفةٍ أو عملٍ أو سكنٍ أو فراشٍ وثيرٍ، إننا ندرك أنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح. وكل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت مِن السعداء".
وهذه الكلمات حركت كثيرًا مِن جند الشيطان المبشرين بالنيران، مِن حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة، وغيرها مِن التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة، والغابات التي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات... تضحية بكل هذا لأجل الباطل الذي يعتقد صحته!
3- مصاحبة الكسالى والمسوفين:
- الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيف، فكيف بالنفوس البشرية؟! فالكسول شعاره: "أمامك ليل طويل فارقد!"، قال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني). وقالوا: "الطباع سراقة!".
- الكسل والتسويف يفوت الخير ويؤخر عن المنازل العالية: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمْ كَثِيرٌ. قَالَ: الْعَجَبُ لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَفِي الأَرْضِ مَنْ تَرَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ : فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَتَتَبُّعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنْ كُنْتُ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَأَجِدُهُ قَائِلًا: فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيَاحُ فِي وَجْهِي حَتَّى يَخْرُجَ، فَيَقُولُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَأَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ، فَيَقُولُ: فَهَلا بَعَثْتَ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَقُولُ: "أَنَا كُنْتُ أَحَقَّ أَنْ آتِيَكَ، فَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِي بَعْدُ، وَالنَّاسُ يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: أَنْتَ كُنْتَ أَعْقَلَ مِنِّي" (فضائل الصحابة للإمام لأحمد).
خاتمة:
- تذكير بدرس اليوم مِن قصة الثلاثة، والتحذير بإجمالٍ مِن خطر التسويف بالأعمال الصالحة.
- التذكير بأن التسويف كاد أن يهلك مَن شهد بدرًا والعقبة، وتسبب في هجر الناس لهم، ولولا رحمة الله -تعالى- بهم: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة:118)؛ لكانوا في صفوف المنافقين!
- لا بأس مِن إعادة عبارات كعب بن مالك -رضي الله عنه- شاهد درس اليوم لتكون عالقة بأذهان السامعين، ورابطة بينهم وبيْن الفوائد المذكورة.
نسأل الله -تعالى- أن يقينا وإياكم شر التسويف، وأن يجعلنا مِن السباقين للخيرات.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقصود بذلك: أن قوة الإرادة هي قوة العزيمة التي تحمل صاحبها على المبادرة والاحترام بقوةٍ على فعل الخيرات دون ترددٍ.