الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 أبريل 2025 - 30 شوال 1446هـ

هل يجب في جهاد الدفع رعاية المصالح والمفاسد والشروط التي تُراعَى في جهاد الطلب؟

كتبه/ إيهاب شاهين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فأولًا: القاعدة الكلية التي لم يختلف فيها عالِم، هي مراعاة ميزان المصالح والمفاسد، وغالب أمور الشريعة مبناها على هذه القاعدة العامة؛ خاصة أحكام الجهاد والمواثيق، والعهود، والفتاوى.

ومن الأمور التي أولاها العلماء رعاية تامة: أحكام الجهاد بناءً على هذه القاعدة الجليلة.

والسؤال: هل المقصود برعاية المصالح والمفاسد في أحكام الجهاد: جهاد الطلب أو جهاد الدفع؟

وللإجابة عن هذا السؤال نقول:

ولو تأملتَ الأحكام المقاصدية التي جاءت الشريعة بالحفاظ عليها، وعلى رأسها الضرورات الخمس والحفاظ عليها بترتيبها: الدِّين، النفس، العرض، العقل، المال، لوجدتَ أن في ترتيبها رعاية لهذه القاعدة الجليلة العامة: المصالح والمفاسد.

ثانيًا: إن مما يجب تقريره: أن تقسيم الجهاد إلى نوعين، هو تقسيم استقرائي، لكن نصوص الوحيين التي تُراعي المصالح والمفاسد هي في أحكام الجهاد عامة. والذي ينظر في نصوص العلماء الأثبات يَرَى ذلك جليًّا في أقوالهم، بل وتطبيقهم العملي، وسوف أنقل كلامهم مطوَّلًا فيما بعد؛ ولذلك فمن يبني على هذا التقسيم أحكامًا ويفرِّق بينهما بأن جهاد الطلب تُراعى فيه المصلحة والمفسدة، وأن جهاد الدفع لا مراعاة فيه لذلك، فإن ذلك بدعة ضلالة تُخالف عموم نصوص الشريعة؛ فلا يكون هذا التقسيم الاستقرائي سببًا لإقامة أحكام على هذا التقسيم ما أنزل الله بها من سلطان، فيكون ذلك بدعة في الدين.

ثالثًا: إن من أسقط بعض الشروط في جهاد الدفع كان من باب تعارض مفسدتين، كترك إذن الدائن إذا حل الدفع، فكان هذا من باب إعمال هذه القاعدة العظيمة. فتعارض هنا إمكانية أخذ الإذن مع وقوع القتل، وإلا فلو أمكن أخذ الإذن دون تعارض لَزِمَ ذلك؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا" (مجموع الفتاوى).

وبناءً على ذلك، يجب مراعاة المصالح والمفاسد أيضًا في جهاد الدفع، وإليك بعض الأدلة وكلام العلماء على ذلك؛ منها ما قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في غزوة الأحزاب: من إعداد ما استطاعوا من العدة، وتنظيم الجيش الإسلامي، والالتزام بإذن ولي أمرهم، وعدم الخروج عن أمره، فعلوا ذلك حتى كان بمقدورهم مراعاة الشروط الشرعية لجهاد الدفع، فدلَّ على وجوب مراعاتها حال جهاد الدفع.

كذلك كان بمقدورهم القضاء على قائد المشركين أبي سفيان، ولكن قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة -رضي الله عنه-: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا ‌تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) (رواه مسلم)، فكان في ذلك مراعاة إذن الإمام ورعاية المصالح والمفاسد.

كذلك ومثله في غزوة أحد، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرماة ألا ينزلوا من الجبل إلا بإذنه، حتى لو انتصر الكفار على المؤمنين وقتلوهم، ولن يوجب عليهم القتل والدفع عن إخوانهم بغير شرط ولا قيد.

وإليك من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- وفعله ما يدل على ذلك:

من ذلك عدم مشاركته -رحمه الله- في قتال الدفع ضد جيش التتار الذي هاجم الديار الإسلامية في المرة الأولى؛ لأنه رأى أن شرط القتال الشرعي لن يتحقق في ذلك الجهاد، ثم شارك -رحمه الله- في المرة الأخرى بعد تحقق الشروط الشرعية للجهاد، ولو كان يرى أن جهاد الدفع لا يُشترط له شرط، فلماذا تخلَّف عن قتال التتار في المرة الأولى؟!

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في ذلك: "ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة" (الاستغاثة).

ويدل على ذلك أيضًا أنه -رحمه الله- كان يمر على التتار المتسلطين على بلاد المسلمين دون أن يقاتلهم أو يقتلهم؛ وذلك لئلا يثيرهم على المسلمين.

قال: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تَصُدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يَصُدُّهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم" (إعلام الموقعين).

والحمد لله رب العالمين.