الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 أبريل 2025 - 30 شوال 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (209) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).

الفائدة الرابعة:

إن الاحتجاج بأننا وجدنا من سبقنا على طريقة، ولا بد وأن نسير على طريقتهم -سواء في الاعتقاد أو في العمل أو في السلوك-؛ ليس من حجة أهل الإسلام وأهل الإيمان، وإنما هي من كلام أهل الباطل والكفران، ولا يتشبه بهم أهل الإسلام ولو في فروع دينهم، وإنما أمرهم الله -عز وجل- أن يسألوا أهل الذِّكْر عن الذكر إذا جهلوه؛ قال الله -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، وأهل الذكر هم أهل العلم، وأما الذكر فهو الذكر المنزَّل من الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

وهو يشمل الكتاب والسُّنة؛ فأنت تسألهم عن الذكر، وليس عن رأي فلان، ولا مذهب فلان؛ فضلًا عن أن ينتقي له من أقوال المختلفين ما يوافق هواه، وما يظن أنه تتحقق به المصلحة الوهمية فإنما تعرف المصالح بموافقة الشريعة، وليس بالانتقاء من المذاهب ما تشتهيه الأنفس؛ فالواجب أن يُسأل العالم عن حكم الشرع عن الذكر الذي هو أهله، وهو يعلمه، وهذا من أوضح البيان.

والواجب على العَالِم: أن يجتهد في معرفة حكم الشرع لا في البحث عن الآراء المتناقضة التي ينتقي منها ما يشتهي الناس، ويختار لهم الرأي الأسهل تيسيرًا لهم -بزعمه!-، وليس الأمر كذلك؛ فليس هذا بالسهل، ولا بالطريق المرضي؛ فمن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله.

وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز الانتقاء من المذاهب بالهوى، ومَن خالفه مِن بعده، خالف الإجماع السابق القديم؛ فلا حجة له فيما يدعيه من وجود من جوَّز ذلك بعد ذلك.

والزنادقة يتعلقون -دائمًا- بمثل هذه الطريقة من انتقاء الأقوال الباطلة من المذاهب المختلفة؛ كما يزعم أحدهم في زماننا: جواز شرب البيرة، وجواز النظر إلى أجساد الكافرات العارية، وجواز التعامل بالربا، وجواز سماع المعازف والألحان والأغاني، وهو يجمع الضلال كله في ذلك؛ كما قال غير واحد من السلف: إذا أخذت بمذهب أهل العراق في الشراب، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في الصرف، اجتمع فيك الشر كله!

ثم إذا لم يجدوا أقوالًا توافق أهواءهم فيمن مضى يتبرع أحدهم بالمخالفة، ويأتي بقول محدث يأتي مَن بعده ويقول: هذا قول الشيخ فلان، وهو أحد الأقوال، كما قد نقلوا هم الاتفاق في المذاهب على عدم جواز تهنئة الكفار بأعيادهم ثم هم يخالفونها، وينقلون اتفاق المذاهب المختلفة، بل إجماع المسلمين على كفر مَن يخالف دين الإسلام ثم يحدثون أقوالًا بأن ذلك قول معتبر بمساواة الأديان، وهذا كله من أعظم أسباب الزندقة، وإدخال الخلل على عقائد المسلمين وأعمالهم.

وعلى طالب العلم أن يأخذ من أقوال العلماء بالدليل، وعلى مَن لا يعلم أن يسأل أهل الذكر عما لا يعلمه؛ يسألهم عن الذكر حتى ولو على طريق الترجمة والإجمال إن لم يكن يستطيع فهم الأدلة، وطرق الاستنباط منها، فيسألهم عن حكم الشرع في هذا، ويسألهم عن حكم الكتاب والسنة.

والواجب على كل مسلم: أن يتجنب التعصب الأعمى؛ وهو: أن يتبع غيره على أمرٍ قد بانت له فيه السنة؛ فقد قال الشافعي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس"، وإنما بيَّن العلماء لزوم عدم التقليد حتى لا يقع الناس فيما وقع فيه المتقدمون ممَّن عبدوا غير الله بسبب التقليد (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 53).

الفائدة الخامسة:

قوله -تعالى-: (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): دل ذلك على أنه لا بد من كشف الباطل، وعدم المداهنة في الحق لأجل أنه صادر عن الآباء والأجداد، أو السادة والكبراء، وبهذا جَهَر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالحق وصدع به؛ فليس مقام الدعوة مقام مجاملة، ولا مداهنة، ولا يحتمل هذا المقام أن يتكلم الناس بالباطل في صيغة الحق، ولا يحتمل على أن يُسكت عن الضلال البيِّن، ولا عن فضحه في نفوس أصحابه؛ من أجل ألا ينفِّرهم؛ فقد نَفَر كثيرٌ من أقوام الرسل بسبب كلام الرسل بالحق، وبيانهم أن قومهم على ضلال، وسموا ذلك شتمًا لآلهتهم، وتسفيهًا لعقولهم، ولم يدفع ذلك الرُّسُل إلى أن يغيروا أسلوب مواجهتهم للباطل، وألا يسموه بغير اسمه؛ (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

ذلك أن الحق لا يقوم في قلب الإنسان إلا بهدم الباطل والبراءة منه، وعدم المداهنة فيه، وإنما يمكن للداعي إلى الله أن يغير وسيلة الدعوة بأن يتكلم بأسلوب غير الذي كان يتكلم به حسب مقتضى الحال؛ فيمكنه أن يغيِّر أرض الدعوة، ويهاجر إلى أرض أخرى، ويمكنه أن يغير المدعوين، وأن يدعو غير مَن أعرضوا عن دعوته، ولكن لا يمكن أن يغير الحق، ولا أن يقول الباطل، ولا أن يداهن فيما يعلم أنه من شرع الله؛ فإنه لا بد أن يبيِّن الباطل ويصفه باسمه، ويقول: "إنه ضلال مبين" -كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.